هذا الإحياء وهذا التهذيب ، هما اللذان جاء بهما المسيح وجاهد لهما حتى مكرت يهود به عليهالسلام (١).
ومنها (ثانيا) أن الله تعالى جعله يكلم الناس في المهد وكهلا : فأما المهد فهو حجر الأم أو مضجع الصبي وقت الرضاع ، والمراد أن المسيح عليهالسلام يكلم الناس في الحالة التي يحتاج الصبي فيها إلى المهد ، ولا يختلف هذا المقصود سواء كان في حجر أمه أو كان في المهد ، وأما الكهل في اللغة فهو ما اجتمع قوته وكمل شبابه ، وهو مأخوذ من قول العرب : اكتهل النبات إذا قوي (٢) ، والمراد أن المسيح يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حالة الطفولة وحالة الكهولة التي يستحكم فيها العقل ، ويستنبأ فيها الأنبياء ، وأما كلامه في المهد (٣) ، فدلالة على براءة أمه مما قذفه بها المفترون ، وحجة على نبوته ، قال ابن عباس : كان كلامه في
__________________
(١) في ظلال القرآن ١ / ٣٩٩.
(٢) نقل أن عمر عيسى عليهالسلام إلى أن رفع كان ثلاثا وثلاثين وستة أشهر ، وعلى هذا فهو ما بلغ الكهولة ، والجواب من وجهين ، الأول : أن الكهل في أصل اللغة هو الكامل التام ، وأكمل أحوال الإنسان إذا كان بين الثلاثين والأربعين ، فصح وصفه بكونه كهلا في هذا الوقت ، والثاني هو قول الحسين بن الفضل البجلي : أن المراد بقوله : «كهلا» أن يكون كهلا بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان ، ويكلم الناس ويقتل الدجال ، قال الحسين بن الفضل : وفي هذه الآية نص في أنه عليه الصلاة والسلام سينزل إلى الأرض ، ومن ثم فقد ذهب سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وغيرهما أنه عليهالسلام رفع إلى السماء ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وأنه سينزل إلى الأرض ويبقى حيّا فيها أربعا وعشرين سنة ، كما رواه ابن جرير بسند صحيح عن كعب الأحبار ، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال : قد كلمهم عيسى في المهد ، وسيكلمهم إذا قتل الدجال وهو يومئذ كهل (تفسير الفخر الرازي ٨ / ٥٢ ، تفسير روح المعاني ٣ / ١٦٤ ، تفسير الطبري ٣ / ٢٧٢ ـ ٢٧٣ ، تفسير القرطبي ص ١٣٣٢ ـ ١٣٣٤ ، تفسير المنار ٣ / ٢٥٢ ـ ٢٥٥).
(٣) روى ابن إسحاق عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : ما تكلم أحد في صغره إلا عيسى وصاحب جريح» ، وفي رواية أخرى قال صلىاللهعليهوسلم : لم يتكلم في المهد إلا ثلاث : عيسى وصبي كان في زمن جريح وصبي آخر» (تفسير ابن كثير ١ / ٥٤٥).