المهد ساعة واحدة بما قصى الله تعالى لنا ، ثم لم يتكلم حتى بلغ أوان الكلام ، على أن ابن الأخشيد إنما يذهب إلى أنه كان يتكلم دائما ، وكان كلامه فيه تأسيسا لنبوته ، وإرهاصا لها ، وعليه يكون قوله : (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) إخبارا عما يؤول إليه ، وقال الجبائي : إنه سبحانه أكمل عقله عليهالسلام إذ ذاك وأوحى إليه بما تكلم به مقرونا بالنبوة وجوّز أن يكون ذلك كرامة لمريم دالة على طهارتها وبراءة ساحتها مما نسبه أهل الإفك إليها ، وأما كلامه في الكهولة فقد ذكر ، رغم أنه غير معجز ، لأسباب منها بيان كونه متقلبا في الأحوال من الصبا إلى الكهولة ، والتغيير على الله تعالى محال ، والمراد منه الرد على وفد نجران في قولهم : إن عيسى كان إلها ، ومنها أن يكلم الناس في المهد مرة واحدة لإظهار براءة أمه ثم عند الكهولة يتكلم بالوحي والنبوة ، ومنها أنه يكلم الناس حال كونه في المهد وكهلا على حد واحد ، وصفة واحدة ، وذلك لا شك أنه في غاية المعجز ، ومنها أن المراد أنه سيبلغ الكهولة (١).
بقيت الإشارة إلى أن النصارى أنكرت كلام المسيح في المهد ، محتجين بأن كلامه في المهد من أعجب الأمور وأغربها ، وبأنه لو حدث لشهده الجمع العظيم الذي يحصل القطع واليقين بقولهم ، لأن تخصيص مثل هذا المعجز بالواحد والاثنين لا يجوز ، ومتى حدثت الواقعة العجيبة جدا عند حضور الجمع العظيم فلا بد وأن تتوافر الدواعي على النقل فيصير ذلك بالغا حد التواتر ، وإخفاء ما يكون بالغا إلى حد التواتر ممتنع ، كما أن الإخفاء ممتنع لأن النصارى بالغوا في إفراط محبته إلى حيث قالوا إنه كان إلها ، ومن كان كذلك يمتنع أن يسعى في إخفاء مناقبه وفضائله ، بل ربما
__________________
(١) تفسير الفخر الرازي ٨ / ٥١ ـ ٥٢ ، تفسير الطبري ٣ / ٢٧١ ـ ٢٧٣ ، تفسير ابن كثير ١ / ٥٤٥ ، تفسير النسفي ١ / ١٥٨ ، تفسير الكشاف ١ / ٢٧٨ ، تفسير روح المعاني ٣ / ١٦٢ ـ ١٦٤.