رابعا : إخبار القوم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم : ـ
وقد اختلف العلماء في وقت هذا الإخبار على قولين ، أحدهما : أنه عليهالسلام كان يخبر عن الغيوب من أول أمره ، أخرج ابن عساكر عن عبد الله بن عمر وبن العاصي ، وكذا روى عن السدي : أنه كان يلعب مع الصبيان ، ثم يخبرهم بأفعال آبائهم وأمهاتهم ، وكان يخبر الصبي بأن أمك خبأت لك كذا فيرجع الصبي إلى أهله ويبكي إلى أن يأخذ ذلك الشيء ، ثم قالوا لصبيانهم لا تلعبوا مع هذا الساحر ، وجمعوهم في بيت ، فجاء عيسى عليهالسلام يطلبهم فقالوا له : ليسوا في البيت ، فقال فمن في البيت ، قالوا خنازير ، قال عيسى كذلك يكونون ، فإذا هم خنازير ، وأما القول الثاني : فإن الإخبار عن الغيوب إنما ظهر وقت نزول المائدة ، وذلك لأن القوم نهوا عن الإخبار ، فكانوا يحزنون ويدخرون ، فكان عيسى عليهالسلام يخبرهم ، وقد أيد ذلك ما أخرجه عبد الرزاق وغيره عن عمار بن ياسر في الآية أنه قال : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ) من المائدة وما تدخرون منها ، وكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا ولا يدخروا ، فادخروا وخانوا ، فجعلوا قردة وخنازير (١).
وبدهي أن الإخبار عن الغيوب على هذا الوجه معجزة ، ذلك لأن المنجمين الذين يدعون استخراج الخبر لا يمكنهم ذلك ، إلا عن سؤال تتقدم ثم يستعينون عند ذلك بآله ويتوصلون بها إلى معرفة أحوال الكواكب ، ثم يعترفون بأنهم يغلطون كثيرا ، فأما الإخبار عن الغيب من غير استعانة بآلة ولا تقدم مسألة لا يكون إلا بالوحي من الله تعالى ، وهذا هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب وإخبارهم عنها ، وبين علم سائر المتكذبة على الله أو المدعية علم ذلك ، ثم إنه عليهالسلام ختم كلامه بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً
__________________
(١) تفسير روح المعاني ٣ / ١٧٠ ، تفسير الفخر الرازي ٨ / ٥٧.