جنس الإنسان وجنس الطير ، وجنس الجبال ، ولكن فيم الدهش؟ وفيم العجب؟ إن لهذه الخلائق كلها حقيقة واحدة وراء تميز الأجناس والأشكال والصفات والسمات ، حقيقة واحدة يجتمعون فيها ببارئ الوجود كله ، أحيائه وأشيائه جميعا ، وحين تصل صلة الإنسان بربه إلى درجة الخلوص والإشراق والصفاء ، فإن تلك الحواجز تنزاح ، وتنساح الحقيقة المجردة لكل منهم ، فتتصل من وراء حواجز الجنس والشكل والصفة والسمة التي تميزهم وتعزلهم في مألوف الحياة ، وقد وهب الله عبده داود هذه الخاصية ، وسخر الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق ، وحشر عليه الطير ترجع مع ترانيمه تسبيحا لله ، وكانت هذه هبة فوق الملك والسلطان ، مع النبوة والاستخلاص (١) ، قال ابن عباس : كانت الطير تسبح معه إذا سبح ، وكان إذا قرأ لم تبق دابة إلا استمعت لقراءته ، وبكت لبكائه (٢).
ومنها (ثالثا) إلانة الحديد له ، فكان بين يديه كالعجين أو كالطين المعجون يصرفه بيده كيف يشاء من غير نار ، ولا ضرب بمطرقة ، وقيل لان الحديد في يده لما أوتي من شدة القوة (٣) ، قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ، وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ، أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ، وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٤) ، وفي قوله تعالى (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) قال الحسن البصري وقتادة والأعمش وغيرهم : كان الله تعالى قد ألان الحديد لداود حتى كان يفتله بيديه لا يحتاج إلى نار ولا مطرقة ، وقال الإمام الفخر الرازي : ألان الله لداود الحديد حتى كان في يده كالشمع وهو في قدرة الله يسير ، فإنه يلين بالنار حتى يصبح كالمداد الذي يكتب به ، فأي عاقل يستبعد
__________________
(١) في ظلال القرآن : ٥ / ٣٠١٧ (بيروت ١٩٨٢).
(٢) زاد المسير : ٦ / ٤٣٦.
(٣) تفسير النسفي : ٣ / ٣١٩.
(٤) سورة سبأ : آية : ١٠ ـ ١١.