كان ، مع حداثة سنه ، من ذوي الفطنة والذكاء ، وقد أعطاه الله الحكمة وحسن القضاء منذ الصغر ، وقد ذكر القرآن الكريم طرفا من ذلك النبوغ والذكاء الذي كان عند سليمان ، وذلك في الفتوى التي عرضت على أبيه داود ، فأفتى فيها كل منهما بوجه يختلف عن الآخر ، وكانت فتوى سليمان أضمن للحق وأقرب إلى الصواب ، كما قال تعالى : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ ، فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) ، فقوله تعالى : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) يدل على أن ما أفتى به سليمان كان أقرب إلى الصواب ، وقوله تعالى : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) يدل على أن داود وسليمان كانا على جانب عظيم من الحكمة والعلم (١) ، وقال أبو حيان : والظاهر أن كلا من داود سليمان حكم بما ظهر له ، وهو متوجه عنده ، فحكمهما باجتهاد ، وهو قول الجمهور (٢).
وخلاصة القصة ، كما يقدمها لنا أصحاب التفسير ، أن زرعا دخلت فيه غنم لقوم لبلاد فأكلته وأفسدته ، فجاء المتخاصمون لداود ، وعنده سليمان ، وقصوا عليه القصة ، فحكم داود بالغنم لصاحب الزرع عوضا عن حرثه الذي أتلفته الغنم ليلا ، فقال سليمان : غير هذا أرفق ، تدفع الغنم لصاحب الزرع فينتفع بألبانها وأولادها وأشعارها ، وتدفع الحرث إلى أهل الغنم يقومون بإصلاحه حتى يعود كما كان ، ثم يترادان بعد ذلك ، فيعود لأهل الغنم غنمهم ، ولأهل الحرث حرثهم ، فقال داود : قد أصبت القضاء فيما قضيت (٣) ، ثم أمضى حكم سليمان لما فيه من حفظ أصول المال
__________________
(١) سورة الأنبياء : آية ٧٨ ـ ٧٩ ، محمد علي الصابوني : المرجع السابق ٢٨٣.
(٢) انظر : تفسير البحر المحيط ٦ / ٣٣٠ ، تفسير النسفي ٣ / ٨٥ ، تفسير أبي السعود ٦ / ٧٨ ـ ٨٠.
(٣) جاء في تفسير النسفي والفخر الرازي : قال الحسن البصري هذه الآية محكمة ، والقضاة بذلك يقضون إلى يوم القيامة ، غير أن النسفي يذهب إلى أن هذا كان في شريعتهم ، فأما في شريعتنا فلا ضمان عند أبي حنيفة وأصحابه بالليل أو بالنهار ، إلا أن يكون مع البهيمة سائق أو ـ