إنجازات معاصريه ، ولا يتنعّم بفوائده ، ولا يقبل التطوير والتجديد .. كلّ ذلك لأنّه قد ارتمى في أحضان التاريخ ، يحتمي بكهفه ، ويتغنّى بأمجاده ، ويجتر حوادثه ، ويتفاعل معها كما الأسطوانة الجريحة التي تكرّر ذات النغمة أبدا ، وهذه حقّا من أعظم علائم التخلّف ، فمثلا لم تكن قريش عند ما بزغ فجر النبوة تصدّق بأنّ الرسول واحد منهم ، يعيش بين ظهرانيهم ، يأكل مما يأكلون ، ويشرب مما يشربون ، يكون أفضل من إبراهيم وموسى وعيسى ومن عظماء التاريخ (عليهم السلام) ، بالرغم من أنّ القرآن الكريم عند عرضه لقصص أنبياء الله الكرام تراه يعرضها بواقعياتها الإيجابية والسلبية ، وكيف كذّبهم الناس ، ولكن مع ذلك يقدّسهم من يأتي من بعدهم. لماذا؟ للتعويض عن الحاضر بالماضي ، الذي يأتي بدوره من منطلق التهرّب من تحمّل مسئوليات الواقع الراهن ، ذلك لأنّ الذي يقدّس واحدا من عظماء التاريخ لا يكلّفه ذلك شيئا كثيرا ، أمّا الذي يحترم قائدا حيّا يعيش في عصره فإنّ ذلك يعني طاعته والتسليم لأوامره.
ومن هذا المنطلق يتحدّث القرآن عن قصة إبراهيم مع قومه ، عند ما تبرّأ من عبادة الأصنام ، معتبرا أنّ عبادة الآباء لها ليس دليلا على شرعيّتها ، وورّث هذا الفكر التحرّري أبناءه ، وصارت تلك سنة يتوارثها المؤمنون الصادقون عبر التاريخ ، أن يؤمنوا بالله ، ولا يخضعوا للفساد المستشري بين الناس ، والذي تعوّدوا عليه ، ولا يخضعوا للشرعيّة المزيفة ـ شرعيّة الأمر الواقع ـ الذي يسمّيه عالمنا السياسي اليوم ، مهما كان هذا الواقع صعبا.
بعد ذلك تتحدّث الآيات عن النظرة المادية البحتة الى القيم ، فلو أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ، رجل من مكة أو آخر من الطائف. لماذا؟ لأنّ الدنيا مقبلة عليهم ، والنظرة المادية الى القيم نابعة من النظرة المادية للأشياء ، فالقيمة كلّ القيمة في نظر بعض الناس للمادة ، أو كأنّ المادة هي القيمة الأساسية