ووقف اللورد في وسط الحجرة أمام الشيخ فترة طويلة خانته فيها اعصابه وارتبكت حواسه وشعر بأنه يتضاءل ويتضاءل امام ذلك الشيخ النحيف الجسد السابح في ذكره حتى لم يعد يشعر بنفسه.
وبعد ان مرت فترة طويلة رفع الشيخ رأسه دون ان يتحرك من مكانه ونظر الى اللورد نظرة هادئة عميقة وقال بصوت لطيف : «أهلا وسهلا»!.
ثم مد إليه يده كما يمدها الملك إلى أحد رعاياه ، وتقدم اللورد فتناول هذه اليد ولثمها بشفتيه.
واسترد الشيخ يده ثم قال له : «في أمان الله ... في امان الله ..»
وخرج اللورد يتعثر ، وقد أدرك ان في مصر من هو أعظم منه شأنا وأقوى شخصية.
ولكن المسجد الأزهر الآن تبدل كثيرا عما كان عليه منذ نيف وأربعين سنة فدخلته جحافل المدنية ، ولم يعد ذلك المعهد الرهيب الذي يتصوره الأجانب مكتنفا بالأسرار تصدر منه الأوامر الخفية إلى المسلمين قاطبة فيخضعون لاشارته كما كان الفاتيكان في عهد ازدهار البابوية .. بل أصبح السائحون يزورونه الآن وعم يعرفون انهم قادمون على جامعة دينية كبرى أخذت من العلوم الحديثة والمدنية العصرية بكثير من أسبابها.
ـ ٣ ـ
في ديسمبر ١٩٤٦ أرادت حكومة النقراشي باشا ان تنفذ رغبة ملكية بتعيين الاستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق شيخا للأزهر ، وكان الأستاذ الأكبر حينئذ بعيدا عن الأزهر ، حيث كان وزيرا للأوقاف ، وكان من قبل ذلك أستاذ الفلسفة في كلية الآداب .. وكان وكيل الأزهر في ذلك الحين هو الشيخ محمد مأمون الشناوي ، فاستشير في الأمر ، فأشار بأن هذا التعيين يخالف نص قانون الأزهر الذي يشترط في شيخ الأزهر ان يكون من بين جماعة كبار العلماء ، فقيل له : إن للأستاذ الأكبر كتبا عديدة وسيقدم كتابا