الفضيلة ، وما لبث رفاعة الأزهري أن كان إمام البعثات في العلم ، ومبرزهم في العمل ، وسابقهم في الفضل ، ولم تمض سنتان على عمله الذي اختطه لنفسه حتى كتب وترجم ونقل من الشمال إلى اليمين ، ما كان قد نقل من اليمين إلى الشمال ، فكان فيما كتب ونقل موفقا كل التوفيق ومسددا كل السداد.
رجع رفاعة إلى مصر فاكب وتلاميذه «تلاميذ مدرسة الألسن» على الترجمة والتأليف في السياسة والاجتماع والادب والجغرافيا والتاريخ حتى كان أول من بني قنطرة فوق الهوة التي كانت تفصل الأزهر ، بل الشرق كله ، عن أوربا. ورفاعة في كل أولئك لم ينس منبته ولا نشأته ولا أزهريته ، فإذا كتب في تاريخ فرنسا ، كتب إلى جانبه في تاريخ العرب وفي تاريخ مصر ، وكأنه يقول «لكم تاريخكم ولنا تاريخنا ، ولكم تراثكم ولنا تراثنا ، وإذا أخذنا فلكي نزيد شخصيتنا لا لنقلل منها» وإذا كتب في جغرافية «ملطبورن» نوره بذكر ياقوت الحموي وأبان عن معجمه ، وإذا تحدث عن المرأة قال : إن الإسلام لم يظلمها وإنما ظلمها أهلوها وإن تعاليم الإسلام لم تعد عليها وإنما عدت عليها اعتبارات وضعية من العادات والتقاليد. وضرب رفاعة بهذا الاتجاه الجديد المثل الأعلى لمن يريد أن يوفق بين ماضيه وحاضره ، واتخذ لمقياس التقدم وحدة الزمن الثلاثة التي تبتدىء بالماضي ، وتتطلع إلى المستقبل ، وتتخذ من الحاضر وصلة ما بينهما.
ومنذ أكثر من قرن أكب المستشرقون على دراسة الإسلام وعلوم الإسلام فبحثوا وأفادوا ، وما يفيد الأزهر أن يقف أمام المتطرف من هذه البحوث موقف الصاخب مكتفيا بما ينقل إليه عنهم إن بالحق وإن بالباطل ، بل يجب عليه أن يتصل بهم ، وأن ينازلهم في ميدانهم ، وأن يقارعهم بأسلحتهم حجة بحجة ودليلا بدليل .. وسيسمع الأزهر عن هؤلاء المستشرقين دروس المل والنحل ، الغريب منها عن الإسلام ، والمشتق منها من تعاليمه وآياته ، والمناسب منها مع عقلية العرب المسلمين ، وما أجبروا عليه إجبارا بلا مسوغ ولا تقدير. سيسمع الأزهر عن قرب وباتصال مباشر كيف تسربت