أن القرآن هو كلام الله ، وأنه كتاب الوجود. تعلمون مقدار ما بذلته وتبذله العقول في استخراج جواهره منذ أنزل إلى اليوم ، ولا يتم للعقل استقصاء كل ما فيه وتحديده بالدقة ما دام الوجود قائما ، ولكن العقل يأخذ منه ما استكمل به وجوده ، وطمأنينته في الدنيا والآخرة على قدر فهمه. ومن هنا تعددت آراء المفسرين لاختلاف وجوه النظر ، ولذلك كان تفسير القرآن في أكثر العصور فن علم وجدل ، مع أن التفسير يجب ان يكون زبدا مستخلصا بالمقاييس العلمية الصحيحة المستمدة من الفن والبحث ، كما أن التفسير الذي لا يعتمد على مقاييس العلم والعقل ، لا يسمى على الحقيقة تفسيرا للقرآن الكريم. ويجب أن يدخل في مقاييس العلم ما يستظهره العقل من أسرار الوجود بالدلائل القاطعة ، وليس من التفسير مظاهر الحياة التي تعتمد على نزعات النفس في إنسانيتها الضعيفة المضطربة. وهذا هو ما وفق إليه الراحل الكريم في تفسيره للقرآن ، وفي علاجه للأبحاث الدينية ، فقلما كان يتعرض السيد رشيد لبحث ما يتصل بالقرآن اتصالا جوهريا إلا بقدر ما تمس له الحاجة. وكثيرا ما كان يتعرض لأقوال المفسرين ، وما يستدلون به ولكنه لم يترك القرآن في المكان الذي تتجاذبه فيه الآراء كما فعل أكثر المفسرين ، بل كان في تفسيره يستخلص القرآن للعقل مؤيدا باللغة وبالشواهد والأدلة من ظواهر الوجود. وأول من فتح هذا الطريق وعبده الأستاذ الإمام رضي الله عنه ، وقد سار فيه تلميذه صاحب الذكرى شوطا بعيدا انتهى فيه إلى آخر سورة يوسف عليه الصلاة والسلام ، وقد فسر من القرآن على هذا المنوال الحكيم اثني عشر جزءا ، وهي أصعب أجزاء القرآن فهما واستنباطا ، وكان آخر آية فسرها من سورة يوسف ومات على أثر تفسيره لها قوله تعالى : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.)
وقال في رثائه الشاعر الحاج محمد الهراوي :
أي صرح هوى وحصن حصين |
|
ولواء طوته أيدي المنون |