عبده ورسوله ، وأسلم وجئناه بحبال وأنزلناه من الصومعة ، وذهبنا به إلى دمشق واشتهر بذلك وضممته إلى قوم يعلّمونه أمر دينه ، وقد رويت هذه الحكاية على وجه آخر.
أخبرنا بها أبو الفتح الفقيه ، حدّثنا نصر بن إبراهيم الزاهد ـ لفظا ـ قال : وقال أحمد بن علي الرّستمي كان أبو بكر الفرغاني من أجلّ الصوفية وكان من رسمه أنه يسيح ، وكان معه كوز ضيّق الرأس فيه قميص لطيف رقيق ، فإذا اشتهى دخول مدينة ، تنظّف وتتطهر ، وأخرج ذلك القميص فلبسه. وكان يسافر بمفتاح منقوش ، فإذا دخل المدينة أو القرية ، عمد إلى مسجد يصلي ، فطرح المفتاح بين يديه ، فكلّ من يراه ، توهّم أنه تاجر قد نزل (١) بعض الخانات فلا يفطن له إلّا الخلصان من أولياء الله عزوجل فدخل مصر مرة على هذا الزي فعرف بها واجتمع إليه الصوفيّة ، فكان يوما يتكلم عليهم ، إذ عرض له خاطر السفر ؛ فقام من مجلسه وخرج معه نحو من سبعين رجلا من الصوفية ، فمشى في يومه فراسخ ، لا يعرّج إلى أحد ، فيقطّع (٢) من كان خلفه ، وبقي منهم قليل ، فالتفت إليهم فقال : كأنّي بكم وقد جعتم وعطشتم ، فقالوا : نعم ، فعدل بهم إلى دير فيه صومعة لراهب ، فلما دخلوا ، أشرف الراهب على أصحابه فناداهم فقال : أطعموا رهبان المسلمين ، فإنّ بهم قلّة صبر على الجوع ، فغضب من ذلك غضبا شديدا ، ورفع رأسه إليه وقال : أيها الكافر ، هل لك إلى خصلة يتبيّن فيها الصابر من الجازع؟ قال : وما ذاك؟ قال : تنزل من صومعتك فتناول من الطعام ما أحببت ، ثم تدخل معي بيتا ، ونغلق علينا الباب ، ويدلّى إلينا من الماء قدر ما يتطهّر به ، فأول من يظهر جزعه ، ويستغيث من جوعه ، ويستفتح الباب ، يدخل في دين صاحبه كائنا من كان ، على أنّي لم أذق من ثلاث ذواقا. قال الراهب : لك ذلك ، فنزل من صومعته فأكل ما أحبّ وشرب ، ثم دخل مع أبي بكر بيتا ، وغلق الباب عليهما ، والصوفية والرهبان يرصدونهما لا يسمعون لهما بحسّ (٣) أربعين يوما ، فلما كان في اليوم الحادي والأربعين سمعوا خشخشة الباب وقد تعلّق بحدّه (٤) ففتحوا الباب فإذا الراهب قد تلف جوعا وعطشا ، وإذا هو يستغيث بهم إشارة ، فسقوه ، واتخذوا له حريرة (٥) ، فصبوها في حلقه ، وأبو بكر الفرغاني ينظر إليهم ، فلما
__________________
(١) كذا بالأصل و «ز» ، ود ، وفي المختصر : «ترك».
(٢) في القاموس المحيط : وقطّع الخيل تقطيعا : سبقها.
(٣) رسمها بالأصل : «بحسن» والمثبت عن «ز» ، ود.
(٤) رسمها بالأصل ، و «ز» ، ود : «بجديه» وفوقها في «ز» : «ضبة» والمثبت عن المختصر.
(٥) الحريرة : الحساء من الدقيق والدسم ، وقيل : دقيق يطبخ بلبن أو دسم (تاج العروس بتحقيقنا : حرر).