والمعنى : لا بد من اختباركم أيها المؤمنون كقوله : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (١) ولما كان الرجل قد يجاهد وهو منافق نفي هذا الوصف عنه ، فبين أنه لا بد للجهاد من الإخلاص خاليا عن النفاق والرياء والتودّد إلى الكفار.
(وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) قرأ الجمهور بالتاء على الخطاب مناسبة لقوله : أم حسبتم. وقرأ الحسن ويعقوب في رواية رويس وسلام بالياء على الغيبة التفاتا.
(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) قرأ ابن السميفع : أن يعمروا بضم الياء وكسر الميم ، أن يعينوا على عمارته. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والجحدري : مسجد بالإفراد ، وباقي السبعة ومجاهد وقتادة وأبو جعفر والأعرج وشيبة بالجمع.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر البراءة من المشركين وأنواعا من قبائحهم توجب البراءة منهم ، ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدة توجب انتفاء البراءة منها كونهم عامري المسجد الحرام. روي أنه أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر يعيرونهم بالشرك ، وطفق عليّ يوبخ العباس ، فقال الرسول : وا قطيعة الرحم ، وأغلظ له في القول. فقال العباس : تظهرون مساوينا ، وتكتمون محاسننا؟ فقال : أو لكم محاسن؟ قالوا : نعم ، ونحن أفضل منكم أجرا ، إنا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحجيج ، ونفك العاني ، فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم. ومعنى ما كان للمشركين : أي بالحق الواجب ، وإلا فقد عمروه قديما وحديثا على سبيل التغلب. وقال الزمخشري : أي ما صح وما استقام انتهى. وعمارته وحوله والقعود فيه والمكث من قولهم : فلان يعمر المسجد أي يكثر غشيانه ، أو رفع بنائه ، وإصلاح ما تهدّم منه ، أو التعبد فيه ، والطواف به. والصلاة ثلاثة أقوال. ومن قرأ بالإفراد فيحتمل أن يراد به المسجد الحرام لقوله : (وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أو الجنس فيدخل تحته المسجد الحرام ، إذ هو صدر ذلك الجنس مقدّمته. ومن قرأ بالجمع فيحتمل أن يراد به المسجد الحرام ، وأطلق عليه الجمع إما باعتبار أنّ كل مكان منه مسجد ، وإما لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها ، فكان عامره عامر المساجد. ويحتمل أن يراد الجمع ، فيدخل تحته المسجد الحرام وهو آكد ، لأن طريقته طريقة الكناية كما لو قلت : فلان لا يقرأ كتب الله ، كنت أنفي لقراءة القرآن من تصريحك
__________________
(١) سورة التوبة : ٩ / ١٧.