بإسناده إليه عن تلك المقدمة انتهى. يعني : استغنى عن أن يكون التركيب ، وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا. قال ابن عطية : كانوا أشد منكم وأعظم فعصوا فهلكوا ، فأنتم أحرى بالإهلاك لمعصيتكم وضعفكم والمعنى : عجلوا حظهم في دنياهم ، وتركوا باب الآخرة ، فاتبعتموهم أنتم انتهى. ولما ذكر تشبيههم بمن قبلهم وذكر ما كانوا فيه من شدة القوة وكثرة الأولاد ، واستمتاعهم بما قدّر لهم من الأنصباء ، شبه استمتاع المنافقين باستمتاع الذين من قبلهم ، وأبرزهم بالاسم الظاهر فقال : كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم ، ولم يكن التركيب كما استمتعوا بخلاقهم ليدل بذلك على التحقير ، لأنه كما يدل بإعادة الظاهر مكان المضمر على التفخيم والتعظيم ، كذلك يدل بإعادته على التحقير والتصغير لشأن المذكور كقوله تعالى : (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) (١) وكقوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٢) ولم يأت التركيب أنه كان ، ولا أنهم هم. وخضتم : أي دخلتم في اللهو والباطل ، وهو مستعار من الخوض في الماء ، ولا يستعمل إلا في الباطل ، لأنّ التصرف في الحق إنما هو على ترتيب ونظام ، وأمور الباطل إنما هي خوض. ومنه : رب متخوض في مال الله له النار يوم القيامة. كالذى خاضوا : أي كالخوض الذي خاضوا قاله الفراء. وقيل : كالخوض الذين خاضوا. وقيل : النون محذوفة أي : كالذين خاضوا ، أي كخوض الذين. وقيل : الذي مع ما بعدها يسبك منهما مصدر أي : كخوضهم. والظاهر أنّ أولئك إشارة إلى الذين وصفهم بالشدّة وكثرة الأموال والأولاد ، والمعنى : وأنتم كذلك يحبط أعمالكم. قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بأولئك المنافقين المعاصرين لمحمد صلىاللهعليهوسلم ، ويكون الخطاب لمحمد صلىاللهعليهوسلم ، وفي ذلك خروج من خطاب إلى خطاب غير الأول. وقوله : في الدنيا ما يصيبهم في الدنيا من التعب وفساد أعمالهم ، وفي الآخرة نار لا تنفع ولا يقع عليها جزاء. ويقوي الإشارة بأولئك إلى المنافقين قوله في الآية المستقبلة (أَلَمْ يَأْتِهِمْ) (٣) فتأمله انتهى. وقال الزمخشري : حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ، نقيض قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٤).
(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) : لما شبه المنافقين بالكفار المتقدمين في الرغبة في الدنيا وتكذيب الأنبياء ، وكان لفظ الذين
__________________
(١) سورة مريم : ١٩ / ٤٤.
(٢) سورة التوبة : ٩ / ٦٧.
(٣) سورة التوبة : ٩ / ٧٠.
(٤) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٢٧.