أمر أحب أن أدركه منه ، فدخلت المسجد فرأيته ، وكان رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر ، فو الله ، إنى لأمشى نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال ، فأقع به ، إذ خرج نحو باب المسجد يشتد ، فقلت فى نفسى : ماله ، لعنة الله؟! أكل هذا فرقا منى أن أشاتمه! وإذا هو قد سمع ما لم أسمع ، صوت ضمضم بن عمرو [الغفارى] وهو يصرخ ببطن الوادى واقفا على بعيره قد جدعه وحول رحله وشق قميصه وهو يقول : يا معشر قريش ، اللطيمة اللطيمة ، أموالكم مع أبى سفيان قد عرض لها محمد فى أصحابه ، لا أرى أن تدركوها ، الغوث الغوث.
قال : فشغلنى عنه ، وشغله عنى ما جاء من الأمر.
فتجهز الناس سراعا وقالوا : أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمى؟ كلا والله ليعلمن غير ذلك.
فكانوا بين رجلين ، إما خارج وإما باعث مكانه رجلا.
وأو عبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد ، إلا أن أبا لهب تخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة. وكانت عليه لأبى لهب أربعة آلاف درهم ، فاستأجره بها على أن يجزئ عنه بعثة.
وأجمع أمية بن خلف القعود ـ وكان شيخا جليلا جسيما ثقيلا ـ فأتاه عقبة بن أبى معيط وهو جالس فى المسجد بين ظهرى قومه بمجمرة فيها نار ومجمر حتى وضعها بين يديه ، ثم قال : يا أبا على ، استجمر فإنما أنت من النساء! فقال : قبحك الله وقبح ما جئت به. ثم تجهز وخرج مع الناس.
ولما فرغوا من جهازهم وأجمعوا السير ذكروا حربا كانت بينهم وبين بنى بكر ابن عبد مناة بن كنانة ، وقالوا : إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا ، فكاد ذلك يثبتهم ، فتبدى لهم إبليس فى صورة سراقة بن جعشم المدلجى ، وكان من أشراف بنى كنانة ، فقال : أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه.
فخرجوا سراعا.
وخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى ليال مضت من شهر رمضان فى أصحابه ، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار (١) ، وكان أبيض ، وكان أمام
__________________
(١) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٨٠٢٠) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٤٩٣٦).