بعث إلي هارون فأتيته ، فأخذني خصيان حتى انتهيا (١) بي إليه في بهو ، فقال لهما هارون : ارفقا بالشيخ ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، ما مرّ بي يوم منذ ولدتني أمي أنا أنصب فيه من يومي هذا ، فاتق الله يا أمير المؤمنين ، واعلم أن لك مقاما بين يدي الله أنت فيه أذل من مقامي هذا بين يديك ، فاتق الله في خلقه ، واحفظ محمدا في أمته ، وانصح نفسك في رعيتك ، واعلم أن الله أخذ سطواته وانتقامه من أهل معاصيه بكم ، فاضطرب على فراشه حتى وقع على مصلى بين يدي فراشه ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، هذا ذل الصفة ، فكيف لو رأيت ذل المعاينة ، فكادت نفسه تخرج ، وكان يحيى بن خالد إلى جنبه ، فقال للخصيّين : أخرجاه ، فقد أبكى أمير المؤمنين.
بعث (٢) هارون إلى محمد بن السماك ، فقال له يحيى بن خالد : أتدري لم بعث إليك أمير المؤمنين؟ قال : لا أدري ، قال له يحيى : بعث لما بلغه عنك من حسن دعائك للخاصة والعامة (٣) ، فقال له ابن السماك : أما ما بلغ أمير المؤمنين عني ذلك فبستر الله الذي ستره علي ، ولو لا ستره لم يبق لنا ثناء ، ولا التقاء على مودة ، فالستر هو الذي أجلسني بين يديك يا أمير المؤمنين. إني والله ما رأيت وجها أحسن من وجهك ، فلا تحرق وجهك بالنار ، فبكى هارون بكاء شديدا ، ثم دعا بماء فاستسقى (٤) ، فأتي بقدح فيه ماء ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أكلمك بكلمة قبل أن تشرب هذا الماء؟ قال : قل ما أحببت ، قال : يا أمير المؤمنين ، لو منعت هذه الشربة إلا بالدنيا وما فيها ، أكنت تفتديها بالدنيا وما فيها حتى تصل إليك؟ قال : نعم ، قال : فاشرب ، بارك الله فيك. فلما فرغ من شربه قال له : يا أمير المؤمنين ، أرأيت لو منعت إخراج هذه الشربة منك إلا بالدنيا وما فيها ، أكنت تفتدي ذلك بالدنيا وما فيها؟ قال : نعم ، قال : يا أمير المؤمنين ، فما تصنع بشيء شربة ماء خير منه (٥)؟ فبكى هارون واشتد (٦) بكاؤه ،
__________________
(١) بالأصل : انتهوا.
(٢) الخبر رواه أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد ٥ / ٣٧٢ في ترجمة ابن السماك ؛ والخبر رواه أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء ٨ / ٢٠٩ من طريق سليمان بن أحمد ثنا محمد بن موسى ثنا محمد بن بكار وذكره ، باختلاف الرواية.
(٣) في الحلية : لما بلغه من صلاح حالك في نفسك ، وكثرة ذكرك لربك عزوجل ، ودعائك للعامة.
(٤) انظر البداية والنهاية ١٠ / ٢٣٤ باختلاف.
(٥) في البداية والنهاية : فقال : إن ملكا قيمة نصفه شربة ماء ، وقيمة نصفه الآخر بولة لخليق أن لا يتنافس فيه.
(٦) بالأصل : «واشتكى» والمثبت عن تاريخ بغداد.