وقد بقى منه نحو جزء لم ينشر ، وأغلب الظن أنه ضمنه حروفا أخرى ردّها على القرّاء منكرا لها أو مقبّحا أو مضعفا. ولا نعلم بصريّا جاء بعده وردّ مثل هذا القدر من القراءات ، بل لقد كان المازنى والمبرد وأضرابهما ممن توقفوا بإزاء بعض القراءات متابعين له مقتدين به. وبذلك يسقط جلّ ما نسبه صاحب الإنصاف إلى البصريين دون الكوفيين من إنكار بعض القراءات. وينبغى أن نعرف أن الفراء ومن تابعه من البصريين لم يكونوا يقصدون إلى الطعن على القرّاء من حيث هو ، إنما كانوا يتثبتون ويتوقفون فى مواضع التوقف حين يعييهم أن يجدوا للقراءة الشاذة على عامة القراء ما يسندها من كلام العرب. وقد تمسكوا تمسكا شديدا بصورة كتابة المصحف ، ولم يدلوا برأى يخالفها بوجه من الوجوه. ونرى الفراء نفسه يتوقف بإزاء الآية : (فَما آتانِيَ اللهُ) ويقول إنه لم يثبت الياء فى (أتانى) لأنها محذوفة من الكتاب. ويذكر أن بعض القراء كان يستجيز زيادة الياء والواو المحذوفتين فى مثل الآية السابقة ومثل : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ) فيثبت الياء فى (أتانى) والواو فى (يدعو) وليست فى المصحف ، ويقول إنه لا يأخذ بذلك ، بل يتقيد بالمصحف وكتابته المأثورة ما دام لذلك وجه من كلام العرب ، وما دام هو الذى قرأ به القراء ، ولا يلبث أن يقول : «كان أبو عمرو يقرأ (إن هذين لساحران) أى بدلا من القراءة العامة إن هذان لساحران ولست أجترئ على ذلك وقرأ (فأصّدق وأكون) (أى بدلا من القراءة العامة وأكن) فزاد واوا فى الكتاب ولست أستحب ذلك» (١). ولعل فى هذا ما يشهد شهادة قاطعة بأنه وأمثاله ممن كانوا يردون بعض القراءات التى لا تعدو حروفا معدودة لم يكن دافعهم إلى ذلك الطعن والتنقص ، إنما كان دافعهم الرغبة الشديدة فى التحرى والتثبت.
__________________
(١) معانى القرآن ٢ / ٢٩٣.