مقدمة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
حين أعارتنى جامعة القاهرة فى العام الدراسى ١٩٦٥ ـ ١٩٦٦ لشقيقتها الجامعة الأردنية حاضرت طلاب قسم اللغة العربية بها فى تاريخ المدارس النحوية. ولما رجعت إلى المكتبة العربية الحديثة لم أجد فيها كتابا يغنى فى هذا الموضوع غناء محمودا ، وقد مضيت أحاضر الطلاب فيه محاولا ـ بقدر جهدى ـ أن أبلغ حاجتهم بترتيب مقدماته وتوفير الأسباب المعينة على صحة نتائجه ، حتى استقامت لى هذه الصورة لمدارسنا النحوية على مرّ التاريخ.
ولعل هذه أول مرة تبحث فيها المدارس النحوية بحثا جامعا ، وهو بحث يرسم فى إجمال الجهود الخصبة لكل مدرسة وكلّ شخصية نابهة فيها. وكان طبيعيّا أن أبدأ بالمدرسة البصرية ، لأنها هى التى وضعت أصول نحونا وقواعده ومكّنت له من هذه الحياة المتصلة التى لا يزال يحياها إلى اليوم ، وكلّ مدرسة سواها فإنما هى فرع لها وثمرة تالية من ثمارها. وقد تقدمت البحث فيها بتصحيح خطأ شاع وذاع قديما وحديثا ، وهو ما ينسب إلى أبى الأسود الدّؤلى وتلاميذه من وضع بعض مبادئ النحو ، وهى إنما بدأت توضع مع الجليل التالى عند ابن أبى إسحق الحضرمى. وأوضحت الأسباب التى جعلت عقل البصرة أدقّ وأعمق من عقل الكوفة وأكثر استعدادا لتسجيل ظواهر النحو العربى ووضع قواعده وقوانينه.
وقد ذهبت إلى أن الخليل بن أحمد الفراهيدى هو المؤسس الحقيقى لمدرسة البصرة النحوية ولعلم النحو العربى بمعناه الدقيق ، وصوّرت فى تضاعيف ذلك إقامته لصرح النحو بكل ما يتصل به من نظرية العوامل والمعمولات وبكل ما يسنده من سماع وتعليل وقياس سديد ، مع بيان ما امتاز به من علم بأسرار العربية