وتذوق لخصائصها التركيبية. وخلفه على تراثه تلميذه سيبويه الذى تمثل آراءه النحوية تمثلا غريبا رائعا ، نافذا منها إلى ما لا يكاد يحصى من الآراء ، فإذا هو يسوّى من ذلك «الكتاب» آيته الكبرى ، وقد بلغ من إعجاب الأسلاف به أن سموه «قرآن النحو» وكأنما أحسوا فيه ضربا من الإعجاز ، لا لتسجيله فيه أصول النحو وقواعده تسجيلا تامّا فحسب ، بل أيضا لأنه لم يكد يترك ظاهرة من ظواهر التعبير العربى إلّا أتقنها فقها وعلما وتحليلا.
وحمل «الكتاب» عن سيبويه تلميذه الأخفش الأوسط ، وأقرأه تلاميذ بصريين فى مقدمتهم المازنى وتلاميذ كوفيين فى مقدمتهم الكسائى ، وكان لهجا بالاعتراض على سيبويه والخليل ، مما جعله ينفذ إلى كثير من الآراء ، وخاصة أنه كان يفسح للغات الشاذة ، وهو بذلك يعدّ الإمام الحقيقى للكسائى وغيره من أئمة المدرسة الكوفية. وكان يعنى بالدفاع عن القراءات المشتملة على بعض الشذوذ والاحتجاج لها بأشعار العرب الفصحاء. وقد بيّنت فى مواطن أخرى أن الفرّاء إمام المدرسة الكوفية بعد الكسائى هو أول من تعرض للقراءات الشاذة بالإنكار العنيف ، وتابعه فى ذلك المازنى وتلميذه المبرد آخر أئمة المدرسة البصرية النابهين.
وأخذت أبحث فى نشاط المدرسة الكوفية ، ولاحظت أنه بدأ متأخرا عند الكسائى ، وقد استطاع هو وتلميذه الفرّاء أن يستحدثا فى الكوفة مدرسة نحوية تستقل بطوابع خاصة من حيث الاتساع فى الرواية ، ومن حيث بسط القياس وقبضه ، ومن حيث وضع بعض المصطلحات الجديدة ، ومن حيث رسم العوامل والمعمولات. وتوسّع الفرّاء خاصة فى تخطئة بعض العرب وإنكار بعض القراءات الشاذة ، وكان ينفذ أحيانا إلى أحكام لا تسندها الشواهد والأمثلة ، وهو يعدّ بحقّ إمام الكوفيين ، فثعلب وغير ثعلب إنما كانوا شارحين لآرائه ومفسرين.
ومضيت أبحث فى المدرسة البغدادية وكانت قد ترامت عليها ظلال خدع كثيرة وخاصة أن علميها الفذّين : أبا على الفارسى وابن جنّى كثيرا ما يكنيان عن البصريين فى مصنفاتهما باسم «أصحابنا» مما جعل كثرة المعاصرين تظن