الرابع : إنا نشاهد كون هذا الجسد ، واقعا في الذوبان بسبب انفصال الرطوبات الكثيرة منه ، وبسبب انفصال العرق والوسخ. فإن الإنسان إذا دخل الحمام ، وبالغ في تنظيف الجلد من الأوساخ ، حتى صار ظاهر [الجلد (١)] بحيث لو أعيد إليه الحك والدلك: يخرج منه الدم. ثم إذا خرج من الحمام وبقي أسبوعا [ثم عاد و (٢)] دخل الحمام مرة ثانية ، فإنه يجد في الجلد شيئا كثيرا من الأوساخ. وما ذاك إلا لأن الأجزاء التي كانت ملتصقة بالبدن في المرة الأولى ، التصاقا طبيعيا ، وكانت حية ، فإنها في هذه المرة الثانية ، يبست وانفصلت عن البدن ، وزالت الحياة عنها. وهذه الاعتبارات بأسرها دالة على أن جميع أجزاء (٣) هذا الجسد واقعة في التبدل والذوبان والانحلال.
وأما المقدمة الثانية : وهي قولنا : إن المشار إليه لكل أحد بقوله : «أنا» : باق دائم من أول العمر إلى آخره. فالأمر فيه ظاهر ، ويدل عليه وجوه :
الأول : إني أعلم بالضرورة : أني الآن عين ما كنت موجودا قبل هذا بعشرين سنة. وقد بينا في أول هذا الكتاب : أن أظهر العلوم عند الإنسان : علمه بوجود نفسه ، وكما أني أعلم أني أنا موجود الآن ، فكذلك أعلم أني أنا الذي كنت موجودا قبل هذا بعشرين سنة. بل أنا الذي ولدت في السنة الفلانية. وهذا يدل على أن العلم الضروري حاصل لكل أحد بأنه باق من أول العمر إلى آخره.
والوجه الثاني في تقرير هذا المطلوب : هو أنه لو لم يكن ذلك الإنسان المعين باقيا من أول العمر إلى آخره ، لاحتاج في تحصيل العلوم في كل حين وأوان ، إلى كسب جديد ، لأن الذي تعلم العلم وحصله ، إذا فني وزال ، وحصل بعده شيء آخر ، فهذا الحادث ما حصل ذلك العلم ، وما اكتسبه ،
__________________
(١) سقط (ط).
(٢) سقط (ل).
(٣) أجزاء البدن (م).