فوجب أن لا يحصل له ذلك العلم إلا بكسب جديد. وحيث لا يحتاج إلى هذا الكسب الجديد ، علمنا أن محل العلوم باق من أول العمر إلى آخره.
والوجه الثالث : أنه إذا فني الأول وجاء الثاني فهذا الثاني غير الأول ولا خبر له من حال الأول [البتة (١)] فوجب أن لا يحصل للإنسان علم بأحواله الماضية ، وأن لا يحصل عنده من العلوم إلا العلوم بالأحوال الحاضرة. وحيث لم يكن الأمر كذلك ، علمنا أن المشار إليه لكل أحد بقوله : «أنا» [شيء (٢)] باق من أول العمر إلى آخره.
فثبت بهذه البيانات : أن الجسد غير باق ، لا بمجموعه ولا بشيء من أجزائه ، وثبت : أن الإنسان باق. ومن العلوم البديهية : أن الباقي لا يكون [عين (٣)] ما هو غير باق. وهذا يقتضي أن الإنسان شيء مغاير لهذا البدن ، وشيء مغاير لهذه الأعضاء المحسوسة التي منها يتولد هذا البدن. وهو المطلوب.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن الإنسان عبارة عن أجزاء مخصوصة سارية في أجزاء هذا البدن ، سريان النار في الفحم [وسريان ماء الورد في الورد ، وسريان دهن السمسم في السمسم (٤)] ولا يقال : إن تلك الأجزاء لا بد وأن تكون من جنس الأجسام العنصرية. إما المفردة وإما المركبة. وعلى كلا التقديرين ، فهي قابلة للانحلال والتفرق والتمزق. وحينئذ يعود الكلام المذكور من أنها غير باقية ، والإنسان باق. فوجب أن يكون الإنسان مغايرا لها؟ لأنا نقول : لنا هاهنا مقامان :
الأول : لم لا يجوز أن يقال : الأجسام مختلفة بالماهية فبعضها هذه الأجسام العنصرية، بسائطها ومركباتها. وبعضها أجسام مخالفة لها. أما الأجسام التي
__________________
(١) سقط (ط).
(٢) من (طا ، ل).
(٣) سقط (ط ، ل).
(٤) من (طا ، ل).