وأما المقدمة الثالثة : وهي أنه لما كان الدماغ منبتا لآلة الحس والحركة الإرادية ، وجب أن يكون معدنا لهذه المعاني. فالدليل عليه : أنه لما كانت قوتا الحس والحركة ، إنما تصلان [من الدماغ (١)] إلى جميع أجزاء البدن ، بواسطة هذه الأعصاب ، وجب أن يكون المنبع والمعدن لهذه المعاني : هو الدماغ.
وهذا الكلام أحسن دلائل «جالينوس» على إثبات مذهبه.
واعلم : أن أصحاب «أرسطاطاليس» أجابوا عن هذه الحجة على مقامين (٢) :
المقام الأول : [لا نسلم : أن الدماغ هو المنبت للعصب. وأما دليل «جالينوس» عليه ، وهو أن الأعصاب كثيرة وقوية عند الدماغ ، وقليلة وصغيرة عند القلب. فقد أجابوا عنه من وجهين :
الأول (٣)] : قالوا : إن المقدمة الواحدة لا تنتج المقصود. بل هذه المقدمة التي ذكرتموها لا بد من ضم مقدمة أخرى إليها. وهي أن يقال : [القوة (٤)] والكثرة لا يحصلان إلا عند المبدأ ، [والقلة (٥)] والصغر ، لا يحصلان إلا عند البعد من المبدأ.
إلا أن هذه المقدمة غير برهانية ، بل هي منقوضة بأمور ثلاثة :
أولها : إن العصبة المجوفة الحاملة للقوة الباصرة ، تكون دقيقة جدا عند المنبت ، فإذا دخلت النقرة التي تكون فيها الحدقة ، غلظت تلك العصبة واتسعت ، وهذا نقض على تلك المقدمة التي عول عليها «جالينوس».
وثانيها : إن الحبة التي يتولد منها ساق الشجرة ، تكون أصغر بكثير من ساق الشجرة. فلم لا يجوز أيضا أن يقال : إن العصبة الصغيرة التي في
__________________
(١) من (م).
(٢) بوجهين (م).
(٣) سقط (م ، ط) واعلم : أن الوجه الثاني أوله : سلمنا أن ... إلخ.
(٤) القلة (م).
(٥) من (ل) ، (طا).