وإن كان الثاني ، فعلم تلك الأسباب العالية الفعالة العالمة بمصالح هذا العالم : أكمل وأتم وأوفى من علم البشر. فإن كان الأصلح حصول ذلك الشيء ، فتلك العلل العالية لا تبخل بها البتة. وإن كان الأصلح عدم ذلك الشيء ، كان طلب تحصيله بالدعاء : جهلا. وحكمة العلل العالية تمنعها عن الإقدام على فعل ما لا ينبغي.
الحجة الخامسة : إن الأسباب العالية الفلكية إن كانت فاعلة لذلك الفعل ، لم يكن في هذا الدعاء فائدة. وإن كانت ممتنعة من ذلك الفعل ، كان اشتغال هذا الإنسان بطلب تحصيل ذلك الفعل ، يجري مجرى المنازعة مع الأسباب الفلكية. والضعيف إذا قاوم القوي ، لم يستفد منه إلا المقت والرد والحرمان.
الحجة السادسة : إن المشتغل بالدعاء. إما أن يكون قد حصل في قلبه نوع من المكاشفات الروحانية ، أو لم يحصل ذلك. فإن لم يحصل ذلك ، كان ذلك الدعاء مجرد تحريك اللسان ، ولا فائدة فيه إلا تكثير الهذيان. وإن حصل فيه ذلك الكشف. فإن كان الكشف قويا تاما ، صارت النفس مستغرقة في تلك الأضواء والأنوار ، تبقى النفس مع ذلك المقدار من ذلك الكشف ، طالبة لهذه الأغراض الجسمانية (١) راغبة في تحصيلها. كانت تلك القوة الحاصلة من تلك المكاشفة ضعيفة جدا. وحينئذ لا تفيد شيئا.
الحجة السابعة : إن الدعاء يجري مجرى تنبيه الغافل وإعلام الجاهل. فكأنه يقول لمعبوده : تركت الجود والفضل والرحمة. فأنا أعلمك أن الأولى فعله. ولا شك أن هذا مبالغة في سوء الأدب.
الحجة الثامنة : إن من حضر في مجلس السلطان القاهر ، فإن الأدب يقتضي أن لا يشافهه بالطلب. ورعاية هذا الأدب (٢) في حضرة ذي الجلال أولى.
__________________
(١) الخسيسة (ل).
(٢) الطلب (ل).