وأما بيان أنه يمتنع كونها من الأجسام اللطيفة فذلك لأنها لو كانت كذلك ، لتفرقت وتمزقت عند هبوب الرياح القوية العاصفة ، فكان يجب أن تموت بأسرع الأسباب ، وأقل الموجبات. وأيضا : فالأجسام اللطيفة لا تكون قادرة على الأفعال الشاقة. والناس يصفونها بالقدرة على الأعمال الشاقة. ولما ثبت فساد القسمين ، ظهر أن القول بإثبات الجن والشياطين : باطل.
الحجة الثانية : إنا نرى المسلمين مطبقين على لعن الشياطين ، وإساءة القول فيهم ، ولو كانوا موجودين لتأذوا منهم. فإذا كانوا قادرين على الإضرار ، وجب أن يكون وقوع أهل الخير والدين في الضرر من جانبهم ، أكثر وأعظم من وقوع أهل الفساد فيه ، وحيث لم يظهر من هذا الباب أثر ولا خبر ، علمنا : أنه لا أصل لهذا الحديث.
الحجة الثالثة : إن أرباب الملل والنحل أطبقوا على تصديق الأنبياء عليهمالسلام في دعواهم : أنهم مبعوثون إلى الخلق من قبل الله تعالى. والقول بالجن يوجب فساد دعواهم. لأنا لا نعرف الجن. وإذا كنا لا نعرفهم ، لم نعرف مقادير علومهم ، ولا مقادير قواهم وقدرهم. وعلى هذا التقدير ، فلا نوع من أنواع المعجزات ، إلا ويحتمل أن يكون ذلك النوع ، من هؤلاء الجن والشياطين. وحينئذ لا يبقى دليل على صحة قولهم في ادعاء الرسالة. فثبت : أن الإقرار بالجن والشياطين ، يوجب الطعن في النبوة.
فإن قالوا : هذا كلام ضعيف في دفع ذلك الإشكال القوي ، إذ لا يمتنع ممن يريد الإغواء والإضلال : أن يتحمل ذلك القدر من الطعن واللعن في تحصيل مراده.
الحجة الرابعة (١) : إنا نرى أرباب العزائم والتنجيمات واقعين في الفقر والجوع والعري ، والذلة والمسكنة. ولو كان لهذا الحديث أصل ، لكان الظاهر من حال أولئك الجن أن يخصوا أنصارهم وأحباءهم ـ وهم هؤلاء المعزّمون ـ
__________________
(١) الحجة الأولى : إنها لو كانت موجودة لكانت. إنا نرى .. إلخ (م).