وخلوها من الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي والإشراك بالله ، وعدم حيلولتها بين الإنسان وواجباته نحو الله والناس على ما شرحناه في مناسبتها السابقة.
والمتبادر أن تخصيص الرسل بأم القرى ينطوي على حكمة اجتماعية بليغة ، فقاعدة البلاد هي الإمام والقدوة لسائرها ، فإذا قنعت بأمر وسارت في طريق تابعها الناس ، وينطوي في هذا تقرير ما يكون على قاعدة البلاد من تبعة وما تلعبه من دور عظيم في حياة البلاد ؛ أخيرا كان أم شرّا أو صلاحا أم فسادا. ولقد كان هذا هو الواقع في الدعوة الإسلامية فعلا ، فقد ظلت الدعوة ضيقة النطاق ومحل مناوأة وأذى في الحجاز لأن أهل مكة أم القرى لم يستجيبوا إليها ، فلما توارى معظم الزعماء المكابرين الذين قادوا حركة المناوأة وفتح الله تعالى مكة لنبيه صلىاللهعليهوسلم ودان أهلها بالإسلام زال السد ودخل الناس في دين الله أفواجا ، وإذا كانت المدينة المنورة استجابت إلى الدعوة وغدت مركزها الذي استمدت منه القوة فإنها كانت خارجة نوعا ما عن نفوذ مكة المادي والمعنوي من جهة ، ولأن مكة ظلت في نظر معظم العرب القائد والإمام ، وظلت تقود حركة المقاومة والمناوأة للدعوة بقوة وعناد ، وتحول ماديّا ومعنويّا دون انضواء العرب إليها.
وقد روى بعض المفسرين (١) أن الآية الأخيرة نزلت في رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبي جهل أو في علي وحمزة رضي الله عنهما وفي أبي جهل أو في عمار والوليد بن المغيرة. والآية معطوفة ومعقبة على ما قبلها ومرتبطة بها ، والكلام فيها عام بالنسبة للفريقين ، وهذا ما يحمل على التوقف في الرواية كسبب لنزولها لحدتها. ولقد قال ابن كثير الذي كان من جملة من روى ذلك من المفسرين (والظاهر أنها عامة) وهو الصواب. والله تعالى أعلم.
__________________
(١) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي.