لعذاب الآخرة. والعذاب إنما يقع بالآلات المستعظمة والأعيان المستفظعة ، مثل مقامع الحديد ، والحجارة المحماة بالجحيم. فوصف سبحانه العذاب الغليظ ، لأنه واقع بالأشياء الغليظة ، والآلات الثقيلة ، فيكون ذلك مجازا من هذا الوجه.
وممّا يقوّي أن المراد بقوله تعالى : (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) (٥٨) عذاب الآخرة ، قوله تعالى في الآية نفسها : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) [الآية ٥٨] وهذه النجاة من عذاب الدنيا. ثم قال تعالى : (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) فدلّ على أن النجاة من العذاب الأول غير النجاة من العذاب الآخر. وأن الأول عذاب الدنيا ، والثاني عذاب الآخرة ، لأن العطف بالواو يقضي بذلك ، وإلّا كان وجه الكلام : فلمّا جاء أمرنا نجّينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا من عذاب غليظ ، ولم يكن لقوله تعالى : (وَنَجَّيْناهُمْ) ثانيا معنى ؛ وهو محال.
وقوله سبحانه حاكيا عن لوط عليهالسلام : (قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) (٨٠) وهذه استعارة والمراد بها : لو كنت آوي الى كثرة من قومي ، وعدد من أهلي. وجعلهم ركنا له ، لأن الإنسان يلجأ الى قبيلته ، ويستند الى أعوانه ومنعته ، كما يستند الى ركن البناء الرصين ، والنضد الأمين (١).
وجاء جواب «لو» هاهنا محذوفا. والمعنى : لو أنني على هذه الصفة لحلت بينكم وبين ما هممتم به من الفساد وأردتموه من ذنوب فحشاء. والحذف هاهنا أبلغ ، لأنه يوهم المتوعّد بعظيم الجزاء ، وبغليظ النكال ، ويصرف وهمه الى ضروب العقاب ، ولا يقف به عند جنس من أجناس المخوفات المتوقّعات.
وليس مخرج هذا الكلام من لوط عليهالسلام ، على ما ظنّه من لا معرفة له ، وقدح فيه بأن قال : ألم يكن يأوي الى الله سبحانه؟ فما معنى القول الذي قاله؟ وذلك أن لوطا على ما ذكرنا إنّما أراد الأعوان من قومه ، والأركان المستند إليهم من قبيلته ، وهو يعلم أن له من معونة الله سبحانه أشد الأركان ،
__________________
(١). النّضد من الجبل : ما تراكم منه. والجمع أنضاد.