كقوله تعالى (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) (٥٦) [العنكبوت] فإنه باعتبار تقديم المفعول في معنى الحصر كما قال في قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٥) [الفاتحة]. الثاني أن فيه إضمار نهي تقديره : أمر ونهي ، ثم فسر الأمرين بقوله تعالى (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الآية ٤٠].
الثالث : أن قوله تعالى (أَلَّا تَعْبُدُوا) وإن كان مضادا للأمر من حيث اللفظ ، فهو مرافق له من حيث المعنى ، فلم قلتم إن تفسير الشيء بما يضاده صورة ، ويوافقه معنى ، غير جائز بيان موافقته معنى ، من وجهين : أحدهما أن النهي عن الشيء أمر بضده ، وعبادة الله ضد لا عبادة الله. الثاني أن معنى مجموع قوله تعالى (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أعبدوه وحده ، فيكون تفسيرا للأمر المطلق.
فإن قيل : الأنبياء عليهمالسلام ، أعظم الناس زهدا في الدنيا ، ورغبة في الآخرة ، فلم ورد على لسان يوسف عليهالسلام (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) [الآية ٥٥] طلب أن يكون معتمدا على الخزائن ، متولّيا لها ، وهو من أكبر مناصب الدنيا؟ قلنا : إنما طلب ذلك ليتوصّل به إلى إمضاء أحكام الله تعالى ، وإقامة الحق ، وبسط العدل ، ونحوه ، ممّا يبعث له الأنبياء ، ولعلمه أن أحدا غيره ، لا يقوم مقامه في ذلك ، فطلب التولية ابتغاء لوجه الله تعالى ، وسعيا لمنافع العباد ومصالحهم لهم ، لا لحبّ الملك والدنيا ، ونظيره قوله تعالى (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) [الأعراف / ١٨٨] يعني لو كنت أعلم أي وقت يكون القحط ، لادّخرت لزمن القحط طعاما كثيرا ، لا للحرص ، لكن لأتمكّن من إعانة الضعفاء والفقراء ، وقت الضرورة والمضايقة ، ويحتمل أن يكون علم تعيّنه بذلك العمل ، فكان طلبه واجبا عليه.
فإن قيل : كيف جاز ليوسف عليهالسلام كما ورد في التنزيل أن يأمر المؤذّن أن يقول (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) (٧٠) وذلك بهتان وتسريق بالصواع لمن لم يسرقه ، وتكذيب للبريء ، واتهام من لم يسرق بأنّه سرق؟
قلنا : قوله تعالى (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) (٧٠) تورية عمّا جرى منهم مجرى السرقة ، وتصوّر بصورتها ، من