والخافض «من» في قولهم «من خلال» ، ثم اتسع في الاستعمال ، وشاعت الظرفية في الكلمتين فأسقط الخافض فقيل : وحدث أثناء ذلك والأصل : «في أثناء ذلك» ، وقيل : وعرض خلال الأمر ، والأصل : من خلال.
٥ ـ وقال تعالى : (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) [الآية ٣٠].
المراد بقوله تعالى : (مِنَ اللهِ) ، أي من انتقامه ، فمن يمنعني من ذلك إن طردتهم أقول : وطيّ ، «الانتقام» ، بهذه الصورة يتبين من المعنى وسياق الآية قبلها. وفي أسلوب القرآن ، من الإيجاز بالحذف ، ما لا يدركه إلا الفطن اللبيب.
٦ ـ وقال تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤٤).
أقول : إن أسلوب القرآن جرى على نسق من إحكام الجملة العربية ، فخصّها بشيء كثير من «التناسب» ، وأريد بالتناسب محاكاة الطول ، حتّى لكأنّك مع هذا النظم البديع أمام مشهد متّصل الصّور منسجم الألوان ، وهذا من لطف بديع القرآن.
وأنت إذا تلوت : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) ، ثم عقّبت عليها بقوله تعالى : (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) ، غلب عليك جمال هذا التقطيع عن الانصراف الى السجع بين «ابلعي» و «أقلعي».
ونتابع هذا الأسلوب المحكم في وضع الفقر ، المصيب كل الإصابة للمعنى بيانا وتصويرا ، فنجد أنفسنا مأخوذين بلطف الصنعة في السّرد ، وما يشبه الحركة الفنّية ، في الخطاب والجواب الذي يقتضيه مقام سرد الخبر ، ونتلو :
(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٤٦)).
قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٤٧)).
(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ