وجهاد لأهل معصيته الذين جحدوا الإيمان به وإقرار برسالة نبيه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم أمره .. وفي رواية : فلما أنزل الله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) ولوا الأدبار ـ أي انهزموا ـ يوم أحد. فجاء قوله تعالى تبكيتا ـ تعنيفا ـ لهم وقيل : نزلت في المنافقين ونداؤهم بالإيمان تهكم بهم وبإيمانهم. وقصد سبحانه في «كبر» التعجب من غيره لفظه. ومعنى التعجب : تعظيم الأمر في قلوب السامعين لأن التعجب لا يكون إلا في شيء خارج عن نظائره وأشكاله وبمعناه قال الشاعر :
رأيت النفس تكره ما لديها |
|
وتطلب كل ممتنع عليها |
يروى أن قاضيا كان مشهورا بحكمته وعدله حتى أحبه الناس حبا جما «أي كثيرا» فلما انتقل إلى رحمة الله أرسل مريدوه ومحبوه والمعجبون به طاقات من الزهور وضعت حول نعشه «وهي جمع طاق : أي قوس .. أو أطواق : جمع : طوق وهو المقصود أي ما يحاط بالعنق من حلي» أرسلوا له هذه الأطواق تعبيرا عن حبهم واحترامهم له. وجاء شيخ كبير ليحيي القاضي تحية الوداع الأخيرة فلقيه ابنه وقال له : انظر يا عم إلى هذه الأزهار الغضة الكثيرة التي بعث بها أصدقاء أبي فأجابه الشيخ : لقد قضى أبوك أيام حياته يبذر البذور التي أنبتت هذه الزهور.
** (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) : هذا القول الكريم هو نص الآية الكريمة الرابعة .. إن الله يرضى عن الذين يقاتلون في سبيل نشر دينه وإعزاز كلمته صفوفا متراصة أو صافين أنفسهم أو مصفوفين كأنهم في تماسكهم بنيان متين لا يمكن للعدو اقتحامه أي دخوله أي ليس فيه فرجة يقتحمها العدو لتماسكهم كأنهم قطعة صلبة واحدة .. وبهذا المعنى قال الشاعر :
كونوا جميعا يا بني اذا اعترى |
|
خطب ولا تتفرقوا أفرادا |
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا |
|
وإذا افترقن تكسرت أحادا |
** (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) : ورد هذا القول الكريم في الآية الكريمة الخامسة .. المعنى : واذكر يا محمد حين قال موسى لقومه : أيها القوم لأي شيء تؤذونني وأنتم تعلمون أني رسول الله مبعوثا إليكم فلما ذا تعصونني؟ قال الزمخشري : قد هنا تفيد التعليل مثل «ربما» وهي في الآية الكريمة أبلغ من «كم» في التكثير .. فكما وردت «ربما» في التكثير على عكس معناها الأصلي في التقليل فكذلك وردت «قد» هنا لتكثير علمهم أي تحقيق تأكيده على عكس معناها الأصلي في تقليل الأصل.
** (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) : أي فحين مالوا عن الحق وانحرفوا عن الهدى والصواب منع الله سبحانه ألطافه عنهم أي أمال قلوبهم عن الحق جزاء لهم على فعلهم يقال : زاغ ـ يزيغ زيغا .. بمعنى مال عن الحق .. وهو من باب «باع» ومثله زاغ البصر : أي كل بمعنى : ضعف .. وزاغت الشمس : أي مالت وذلك إذا فاء الفيء .. ويزوغ زوغا .. أيضا لغة فيه والرباعي «أزاغ ـ إزاغة» فعل متعد كما في الآية المذكورة والثلاثي فعل لازم وقد يأتي متعديا أيضا فيقال : زاغه عن الشيء : أي صرفه.