ثمّ انك قد سمعت انّ المراد بالجعل في قوله : (إِنِّي جاعِلٌ) هو الجعل التكويني فينزل هذا الكلام منه سبحانه منزلة قوله : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) (١) ، فمن ادّعى انّ له أن يختار الخليفة فكأنّه قد ادّعى انّ له أن يخلق بشرا من طين ، ولما بطل أحد المعنيين بطل الأخر ، إذ هما في حيّز واحد بل قد يقال إنّه يستفاد من الآية انّ طريق معرفة الخليفة هو السماع بالإشارة والنصّ ، وذلك لأنّ الخلافة الموعودة ان كانت خصوص خلافة آدم فتحقّق النّص والإشارة واضح بالنّسبة إليه ، وان كانت هي الخلافة الثّابتة لجميع الحجج من الأنبياء والأوصياء ، فظاهر الآية أنّه عرضها عليهم ، وعلّمهم أسمائها ، فصحّ انّ الطريق هو الإشارة والنّص من جهة السّمع والتّوقيف.
ثمّ إنّه يستفاد من الآية بعد ملاحظة اعتراض الملائكة والجواب عنهم أنّه لا يصحّ نصب الخليفة وجعلها إلّا لمن كان عالما بغيب السماوات والأرض ، وبما تبديها النفوس وتكتمها ، وبأسرار الخليفة واستعداداتهم وما يؤول اليه أمرهم ، وبهذا تمّت حجّته سبحانه على الملائكة ، وهي حجّة على غيرهم ايضا إن أرادوا تعيين الخليفة ونصبه من غير دليل ونصّ عليه بالخصوص من الله تعالى او حججه الّذين هم خزنة الوحي والتّنزيل.
ثالثها : أنّ الأعلم هو الأحقّ الأليق بالخلافة ، وذلك لأنّ الملائكة قد عرّضوا أنفسهم لهذا المطلب الجليل واستدعوه منه سبحانه ، وظنّوا انّهم أحقّ به من آدم فأبان الله سبحانه عن قصورهم وعدم استحقاقهم لهذه الدّرجة وتفضيل آدم عليهم
__________________
(١) ص : ٧١.