بدونه ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ، فبقى من الكذب المحتمل في حقّه تعالى ما روعي فيه مصلحة لم ينحصر طريقها فيه وتأثير نحو هذه المصلحة في حسنه غير واضح ، بل خروج ما لم يبلغ حدّ الاضطرار بالقياس إلى المكلّفين عن حدّ القبح العقلي موضع منع ، وإن قصد به استجلاب المنافع أو استدفاع المضارّ المتسامح فيها عند العقلاء ، ولذا ترى أنّ من يرتكب الأقاويل الكاذبة لمجرّد استجلاب المنافع لنفسه أو لغيره كان ساقط المحلّ عند العقلاء مذموما لديهم ، ولا يعذّره كونه طريقا إلى استجلاب تلك المنافع ، وليس هذا إلاّ لعدم تأثير ما عدا الاضطرار في حسن الكذب من أيّ قائل كان.
ولهذا كلّه ظهر فساد مقالة بعض الزنادقة ، فإنّ تجويز ما ذكر في الأخبار المشار إليها دائر بين تجويز العجز في حقّه تعالى أو ارتكاب القبيح ، لعدم خلوّ الفرض عن الاضطرار فيلزم الأوّل أو عدمه فيلزم الثاني ، وهذا هو الوجه في امتناع وقوع الكذب من الأنبياء لقبحه ما لم يحصل الاضطرار إليه.
نعم ربّما أمكن فرض تحقّق الاضطرار في حقّهم لكنّه لا يؤثّر في حسنه ورفع قبحه ، لمنافاته الحكمة الباعثة على بعثهم وهو إظهار الحقّ وإمحاق الباطل وإتمام الحجّة وقطع المعاذير على من آمن برسالته ومن كفر بها ، وهذه مصلحة عظيمة لا يعارضها مصلحة حفظ النفس والاحتراز عن الضرر وإن كان معلوما ، ولذا كان يجب عليهم الدعوة إلى الحقّ مع الأمن من شرّ أهل الباطل ومع عدمه ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ )(١) بل ربّما كانوا مأمورين على الجهاد والقتال وإن تضمّن إصابة ضرر عليهم من جرح أو قتل ، ومن هنا ظهر أنّه لا معنى للتقيّة في حقّهم فعلا ولا قولا كذبا ولا تورية.
والفرق بين النبيّ والإمام أنّ الأوّل على ما عرفت مبعوث لإظهار الحقّ وإتمام الحجّة ، ولا يتمّ ذلك إلاّ ببيان الواقع في جميع الوقائع المتعلّقة بالامور الدينيّة من المعارف اليقينيّة والأحكام الفرعيّة ، والإمام بعده منصوب لحفظ الشريعة وإزاحة العلّة والجهل عن الأنام ببيان ما يحتاجون إليه من المعارف والأحكام بعد ما تمّت الحجّة ولزمت البيّنة ببيان الرسول حتّى بالنسبة إلى وجوب معرفة الإمام واتّباعه ، كما نصّ عليه قوله عزّ من قائل : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً )(٢) وكما أنّ وجود كلّ من النبيّ والإمام من الألطاف الواجبة عليه تعالى فكذلك تصرّف كلّ منهما وتدبيره في
__________________
(١) الأنفال : ٤٢.
(٢) المائدة : ٣.