ويرجع الكلام إلى مسألة كلاميّة وهي أنّه هل يجب على الله تعالى الأخذ بالأولى في أفعاله وأحكامه أو لا؟ وذلك كما يقال : إنّ عقوبة أهل المعصية حسن والعفو عنهم أحسن ، فعلى القول بالوجوب وجب اختيار الأحسن ، وهذا هو السرّ في عدم وقوع التكليف مع كونه حسنا.
قلت : هذا لا يدفع المعارضة ، إذ المفروض عدم وقوع التكليف سواء كان الباعث عليه كونه أحسن أو جهة اخرى ، فلابدّ في التفصّي عن الإشكال إمّا من منع منافاة عدم وقوع التكليف لمقام الامتنان مع الاعتراف بخلوّه عن الحسن ، أو من منع ورود الأدلّة المذكورة في مقام الامتنان ، بل إنّما وردت لبيان الواقع من عدم تعلّق تكليف إلزامي بالامور العسرة الشاقّة ، فإذا جاز للمستدلّ في دفع المعارضة أحد هذين المنعين جاز لنا أيضا في ردّ الاستدلال ونقول : إنّ هذه الامور خالية عن الحسن الملزم بطروّ المشقّة والعسر ، ولكن رفع التكليف عنها مع هذا الفرض لا ينافي الامتنان ، أو أنّ الأدلّة الدالّة على رفعه ليست مسوقة للامتنان.
ولو تمحّل فعدل عن التقريب المذكور إلى الاستدلال بالامور المذكورة المرفوع عنها التكاليف الإلزاميّة على نهج آخر ، وهو أنّ التكليف الّذي هو فعله سبحانه إنّما يحسن لكونه لطفا ، بمعنى المقرّب إلى الطاعة والمبعّد عن المعصية ، والامور الشاقّة ولا سيّما ما لا يتحمّل منها عادة في عرضة عدم الوقوع من أغلب آحاد الناس ، فلو وقع بها التكاليف الإلزاميّة كان منافيا للّطف الواجب عليه تعالى ، لكونها حينئذ مقرّبة إلى المعصية ومبعّدة عن الطاعة فيقبح وقوعها منه تعالى وإن فرض اشتمال هذه الامور على الحسن فظهر بذلك أنّ المدار في حسن التكليف وعدمه على اللطف وخلافه ، فما كان لطفا حسن وما كان منافيا له قبيح ، لا على حسن الفعل وعدمه.
وممّا ينبّه على ذلك ما في كلام علماء الكلام من أنّ التكليف حسن لأنّه نفع ، وواجب لأنّه زجر أي زجر عن المعصية ، ومرجعه مع ما ذكر إلى أنّ التكليف لا يتبع صفات الفعل المكلّف به ، بل إنّما يتبع الصفات الّتي في نفسه.
لدفعناه : بمنع استناد المعصية إلى التكليف الإلزامي على تقدير وروده بهذه الامور ، فإنّ عدم وقوعها من لوازم ما فيها من المشقّة وورود التكليف الإلزامي بها يوجب صدق المعصية على هذا الترك لا أنّه يؤثّر فيه ، فلا يكون مقرّبا إليها ليقبح باعتبار كونه خلاف اللطف.
نعم إنّما لا يحسن باعتبار كون المشقّة الطارئة أثّرت في خروجها عن الحسن الملزم ، على معنى ارتفاع الجهة المقتضية للإلزام من حسنها.