وبهذا ينقدح أنّ ما ذكرناه سابقا من أنّ الحسن والقبح فيما إذا كان الفعل لعنوانه الخاصّ مقتضيا لهما كالصدق والكذب مقتضيان للحكم الشرعي ، فيجامعهما المانع عن اقتضائهما ليس على ما ينبغي ، بل التحقيق الّذي يساعد عليه النظر الدقيق أنّ كلاّ منهما في جميع موارده علّة تامّة للحكم الشرعي ، وإن كان الفعل لعنوانه الخاصّ مقتضيا له ، إذ معنى الجهة المانعة للفعل عن الاقتضاء أنّه يمنعه عن اقتضاء الحسن كما في الصدق الضارّ ، أو عن اقتضاء القبح كما في الكذب النافع ، فمع وجودها لا حسن في الأوّل ولا قبح في الثاني ، ليكون بالقياس إلى الحكم الشرعي مقتضيا ومع عدمها وجب التأثير.
ومن هنا ظهر فساد ما قد يقال : من أنّ الفعل القبيح إذا لحقته الجهة المحسّنة فالإتيان به إنّما هو من باب ارتكاب أقلّ القبيحين ، كما في الكذب النافع في إنجاء النبيّ عن القتل مثلا فإنّ كلاّ من الكذب وترك الإنجاء قبيح إلاّ أنّ قبح الثاني أكثر ، ومنه العمل بالظنّ حال انسداد باب العلم الّذي تطابق العقل والنقل بقبحه ، فإنّه إنّما يسوغ لكونه أقلّ القبيحين منه ومن مخالفة العلم الإجمالي بترك امتثال الأحكام المعلومة بالإجمال رأسا ، إذ القبيح عند طروّ الجهة المحسّنة له لا يبقى على قبحه ليكون فعله من ارتكاب أقلّ القبيحين.
هذا تمام الكلام في قضيّة قولهم : « كلّما حكم به العقل حكم به الشرع ».
وأمّا عكسها : وهو « أنّ كلّما حكم به الشرع حكم به العقل » فالكلام فيه هو أنّ حكم الشرع في موضوع هذه القضيّة إمّا أن يراد به إنشاء الشارع بإيجاب أو تحريم أو غيرهما ، أو جعله الواقعي للوجوب أو الحرمة أو غيرهما ، أو الوصف النفساني المعبّر عنه بالحبّ والبغض النفسانيّين ، وحكم العقل في محمول القضيّة إمّا أن يراد به إدراكه لعين ذلك الحكم المحكوم به الشرعي ، أو حكمه على الفعل بالوجوب والحرمة العقليّين المأخوذ فيهما استحقاق المدح والذمّ ، وملخّصه : كون الفعل بحيث يحسّنه العقل أو يقبّحه.
وعلى التقديرين ينبغي أن يراد من حكمه ما يعمّ الشأني ـ ليكون المعنى أنّ كلّما حكم به الشرع فهو بحيث لو أدرك فيه العقل صفات الفعل وأحاط بجميع جهاته لأدرك ذلك الحكم الشرعي ، أو حكم بوجوبه أو حرمته العقليّين ـ لا الفعلي بالخصوص ، لئلاّ ينتقض بغير مستقلاّته الّتي لا يدرك فيها إلاّ من جهة خطاب الشرع ، الكاشف عن وجود الصفة المحسّنة أو المقبّحة في الفعل بحسب الواقع ، إلاّ أن يراد بالعقل خصوص العقول الصحيحة الكاملة ، فيرجع معنى القضيّة حينئذ إلى ما تقدّم عن المتكلّمين من عدّهم من