وثانيهما : ما حكاه عن بعض الأفاضل من الفرق بين الضروريّات والنظريّات فخصّ النفي بالنظريّات محتجّا بأمرين :
الأوّل : ما دلّ من الأخبار على أنّ دين الله لا يصاب بالعقول (١) ، وما دلّ على أنّ الناس مكلّفون بالرجوع إلى الكتاب والسنّة (٢) ، فإنّ ظاهرهما حصر الحجّة فيهما.
الثاني : أنّ المطالب النظريّة كثيرا مّا يقع فيها الاشتباه والخطأ وإن بالغ الناظر في المحافظة على مقدّماتها ، كما يشهد به الوجدان فلا يحصل للناظر القطع بها ، لأنّه كلّما رتّب البراهين بمقدّماتها المستلزمة للمطلوب منع نفسه من الانقياد بها والتسليم لمقتضاها علمه الإجمالي بكثرة وقوع الخطأ في النظر ، وإنّ الناظر كثيرا مّا يقطع بالحكم بمشاهدة مقدّمات معلومة عنده بالضرورة ثمّ ينكشف خلافه ، فيجوز أن يكون علمه بالحكم المستفاد من النظر من ذلك القبيل ، إذ لا يتمكّن من التميّز بحيث لا ينتقض بذلك اليقين الإجمالي ، وإذا تحقّق عنده ذلك امتنع جزمه بالحكم (٣).
وأنت بملاحظة ما نبّهنا عليه مرارا من الفرق بين النزاع في الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع والنزاع في حجّية إدراكات العقل ، تعرف أنّ عدّ هذين القولين من أقوال النزاع في الملازمة خلط بين المقامين ، لأنّهما بملاحظة حججهما المذكورة يناسبان النزاع في حجّية إدراكات العقل.
ومع هذا نقول في دفع حجّة الأوّل : بأنّ الأخبار إنّما دلّت على تعذيب عبدة الأوثان لمخالفتهم الواقع بعد انكشافه لهم ، فهو المناط في استحقاقهم التعذيب ، وهو موجود فيما يستقلّ فيه العقل من الفروع أيضا ، لأنّ إدراك العقل فيها معناه انكشاف الواقع عنده لازمه استحقاق التعذيب على المخالفة ، بل استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع بعد انكشافه ضروريّ لا حاجة له إلى الاستدلال.
وفي دفع أوّل حجّتي الثاني : أنّ الأخبار المشار إليها إنّما وردت ردّا على العامّة في تخريجهم علل الأحكام بعقولهم القاصرة ، ومعناها أنّ العلل الخفيّة لأحكام الدين لا تبلغ إليها العقول الناقصة ، كما هو ظاهر قوله عليهالسلام : « لا يصاب » فإنّ إصابة الشيء عبارة عن البلوغ إليه ، فتكون مختصّة بما لا يستقلّ فيه العقل ، لأنّ مفادها نفي إدراك العقل لا نفي حجّية
__________________
(١) الكافى ١ : ٤٦ ، ح ١٣ و ١٦.
(٢) الكافي ١ : ٦٩ ـ ٧١ باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب.
(٣) الفصول : ٣٤٥.