وكذلك يترك استعمال الدواء لسائر المهلكات الباطنة ، وربما يختطفه الموت قبل التوبة والتلافي ، فيلقى الله وهو عليه غضبان ، فترك ذلك كله واشتغل بعلم النحو وتصريف الكلمات ، والمنطق وبحث الدلالات ، وفقه الحيض والاستحاضات ، والسلم والإجارات ، واللعان والجراحات ، والدعاوى والبيّنات ، والقصاص والديات ، ولا يحتاج [إلى] (١) شيء من ذلك مدّة عمره إلّا نادرا وإن احتاج إليه غيره ، فهو من فروض الكفاية ، وغفل مع ذلك عن العلوم الّتي هي فرض عيني بإجماع المسلمين.
فغاية تلك العلوم إذا قصد بها وجه الله العظيم وثوابه (٢) الجسيم أنها فرض كفاية ، ومرتبة فرض الكفاية بعد تحصيل الفرض العيني ، فلو كان غرض هذا الفقيه العالم بعلمه وجه الله تعالى لاشتغل بترتيب العلوم بالأهم فالأهم والأنفع فالأنفع ، فهو إما غافل مغرور ، وإما مراء في دينه ، مخدوع ، طالب للرئاسة والاستعلاء ، والجاه والمال ، فيجب عليه التنبيه لإحدى العلتين قبل أن تقوى عليه وتهلكه.
وليعلم مع ذلك أيضا أن مجرد تعلم هذه المسائل المدونة ليس هو الفقه عند الله تعالى ، وإنّما الفقه عند الله تعالى بإدراك جلاله وعظمته ، وهو العلم الذي يورث الخوف والهيبة والخشوع ، ويحمل على التقوى ، ومعرفة الصفات المخوفة فيجتنبها ، والمحمودة فيرتكبها ، ويستشعر الخوف والحزن كما نبّه عليه الله تعالى في كتابه حيث يقول (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) (٣).
__________________
(١) من المصدر ، وفي النسختين : في.
(٢) في «ح» بعدها : العظيم.
(٣) التوبة : ١٢٢.