وحين يهن العظم يكون الجسم كله وهن ، فالعظم هو أصلب ما فيه وهو قوامه الذي يقوم به ويجتمع عليه ، ويشكو إليه اشتعال الرأس شيبا ، والتعبير المصور يجعل الشيب كأنه نار تشتعل ، ويجعل الرأس كله كأنما تشمله هذه النار المشتعلة ، فلا يبقى في الرأس المشتعل سواد ، ووهن العظم واشتعال الرأس شيبا كلاهما كناية عن الشيخوخة وضعفها الذي يعانيه زكريا ويشكوه إلى ربه ، وهو يعرض عليه حاله ورجائه ، ثم يعقب عليه بقوله : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) معترفا بأن الله قد عوّده أن يستجيب إليه أذا دعاه ، فلم يشق مع دعائه لربه ، وهو في فتوته وقوته ، فما أحوجه الآن في هرمه وكبرته أن يستجيب الله له ويتم نعمته عليه ، وهذا وقد جاء في بعض الآثار أن العبد إذا قال في دعائه : يا رب ، قال الله سبحانه وتعالى له : لبيك عبدي ، وروى أن موسى عليهالسلام قال يوما في دعائه : يا رب ، فقال سبحانه وتعالى له : لبيك يا موسى ، فقال موسى : أهذا لي خاصة ، فقال الله تبارك وتعالى : لا ، ولكن لكل من يدعوني بالربوبية ، وقيل إذا أراد العبد أن يستجاب له دعاؤه ، فليدع الله تعالى بما يناسبه من أسمائه وصفاته عزوجل (١).
هذا وقد اختلف العلماء في قوله تعالى : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٢) ، فأما «الموالي» ، فيما يروي عن ابن عباس ومجاهد ، عصبة الرجل ، وعن ابن عباس أيضا والحسن البصري : ورثته ، وعن أبي صالح : الكلالة (٣) ، وعن الأصم ينو العم ، وهم الذين يلونه في النسب ،
__________________
(١) في ظلال القرآن ٤ / ٢٣٠٢ ، روح المعاني ١٦ / ٥٩ ـ ٦١.
(٢) سورة مريم : آية ٥ ـ ٦.
(٣) الكلالة : المراد هنا من يرثه من حواشيه ، لا أصوله ولا فروعه ، كما روى الشعبي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، أنه سئل عن الكلالة ، فقال أقول فيها برأي ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه ، الكلالة : من لا ولد