المسيح وأمه كانا يأكلان الطعام ، يقول تعالى : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) (١) ، ومن البيّن أن الذي يأكل الطعام فيتحول في جسمه دما ولحما وعظما ، وينضح عرقا ، ويخرج فضلة لو بقيت في الجسم لأضرته ، من الواضح أن كائنا من هذا النمط لا يمكن إلا أن يكون بشرا خاضعا لكل قوانين البشر التي لا تؤدي إلى نقص في مرتبته كرسول (٢) ، ويقول الفخر الرازي اعلم أن المقصود من قوله تعالى : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) الاستدلال على فساد قول النصارى ، وبيانه من وجوه ، الأول : أن كل من كان له أم فقد حدث بعد أن لم يكن ، وكل من كان كذلك كان مخلوقا ، لا إلها ، والثاني : أنهما كانا محتاجين ، لأنهما كانا محتاجين إلى الطعام أشد الحاجة ، والإله هو الذي يكون غنيا عن جميع الأشياء ، فكيف يعقل أن يكون (المحتاج) إلها ، والثالث أن الأكل عبارة عن الحاجة إلى الطعام ، وهذه الحاجة من أقوى الدلائل على أنه ليس بإله ، والرابع : أن الإله هو القادر على الخلق والإيجاد ، فلو كان إلها لقدر على دفع ألم الجوع عن نفسه بغير الطعام والشراب ، فلما لم يقدر على دفع الضرر عن نفسه ، كيف يعقل أن يكون إلها للعالمين ، وبالجملة ففساد قول النصارى أظهر من أن يحتاج فيه إلى دليل (٣).
وأما قوله تعالى : (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) (٤) ، فهذا ، كما يقول الفخر الرازي ، دليل آخر على فساد قول النصارى ، وهو يحتمل أنواعا من الحجة ، الأول : أن اليهود كانوا يعادونه ويقصدونه بالسوء ، فما قدر على الإضرار بهم ، وكان أنصاره وصحابته
__________________
(١) سورة المائدة : آية ٧٥.
(٢) عبد الحليم محمود : التفكير الفلسفي في الإسلام ـ القاهرة ١٩٦٤ ص ٧٤.
(٣) تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٦١.
(٤) سورة المائدة : آية ٧٦.