__________________
ـ والثانى : أن الواو واو الحال ، والمضارع خبر مبتدأ مضمر ، والجملة الاسمية فى محل نصب على الحال من مرفوع «نردّ» ، والتقدير : يا ليتنا نردّ غير مكذبين ، وكائنين من المؤمنين ، فيكون تمنى الرّدّ مقيدا بهاتين الحالين ، فيكون الفعلان أيضا داخلين فى التمنى. وقد استشكل الناس هذين الوجهين بأن التمنى إنشاء ، والإنشاء لا يدخله الصدق ولا الكذب ، وإنما يدخلان فى الإخبار ، وهذا قد دخله الكذب ؛ لقوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ). وقد أجابوا عن ذلك بثلاثة أوجه :
أحدها : ذكره الزمخشرى ، قال : هذا تمن تضمن معنى العدة ، فجاز أن يدخله التكذيب ؛ كما يقول الرجل : ليت الله يرزقنى مالا ، فأحسن إليك ، وأكافئك على صنيعك ، فهذا متمنّ فى معنى الواعد ، فلو رزق مالا ولم يحسن إلى صاحبه ولم يكافئه كذب ، وصح أن يقال له : كاذب ، كأنه قال : «إن رزقنى الله مالا أحسنت إليك».
والثانى : أن قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ليس متعلّقا بالتمنى بل هو محض إخبار من الله تعالى بأن ديدنهم الكذب ، وهجّيراهم ذلك ، فلم يدخل الكذب فى التمنى. وهذان الجوابان واضحان ، وثانيهما أوضح.
والثالث : أنا لا نسلم أن التمنى لا يدخله الصدق ولا الكذب بل يدخلانه ، وعزى ذلك إلى عيسى بن عمر ، واحتج على ذلك بقول الشاعر :
منى إن تكن حقّا تكن أحسن المنى |
|
وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا |
قال : «وإذا جاز أن توصف المنى بكونها حقا جازت أن توصف بكونها باطلا وكذا». وهذا الجواب ساقط جدا ، فإنّ الذى وصف بالحق إنما هو المنى ، والمنى : جمع منية ، والمنية : توصف بالصدق والكذب مجازا ؛ لأنها كأنها تعد النفس بوقوعها ، فيقال لما وقع منها : صادق ، ولما لم يقع منها : كاذب ، فالصدق والكذب إنما دخلا فى المنية لا فى التمنى.
والثالث : من الأوجه المتقدمة أن قوله : «ولا نكذّب ... ونكون» خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة استئنافية لا تعلق لها بما قبلها ، وإنما عطفت هاتان الجملتان الفعليتان على الجملة المشتملة على أداة التمنى وما فى حيّزها ، فليست داخلة فى التمنى أصلا ، وإنما أخبر الله تعالى عنهم أنهم أخبروا عن أنفسهم بأنهم لا يكذبون بآيات ربهم ، وأنهم يكونون من المؤمنين. فتكون هذه الجملة وما عطف عليها فى محل نصب للقول ، كأن التقدير : فقالوا : يا ليتنا نردّ ، وقالوا : نحن لا نكذّب ، ونكون من المؤمنين ، واختار سيبويه هذا الوجه ، وشبهه بقولهم : دعنى ولا أعود ، أى : وأنا لا أعود تركتنى أو لم تتركنى ، أى : لا أعود على كلّ حال ، كذلك معنى الآية : أخبروا أنهم لا يكذّبون بآيات ربّهم ، وأنهم يكونون من المؤمنين على كل حال ، ردوا أو لم يردوا. وهذا الوجه وإن كان الناس قد ذكروه ورجّحوه ، واختاره سيبويه كما مرّ ، فإن بعضهم استشكل عليه إشكالا ؛ وهو أن الكذب لا يقع فى الآخرة ، فكيف وصفوا بأنهم كاذبون فى الآخرة فى قولهم : «ولا نكذّب ... ونكون». وقد أجيب عنه بوجهين :
أحدهما : أن قوله : «وإنّهم لكاذبون» استئناف لذمهم بالكذب ، وأن ذلك شأنهم كما تقدم ذلك آنفا. ـ