__________________
ـ والثانى : أنهم صمموا فى تلك الحال على أنهم لو ردوا لما عادوا إلى الكفر ؛ لما شاهدوا من الأهوال والعقوبات ، فأخبر الله تعالى أن قولهم فى تلك الحال : «ولا نكذّب» وإن كان عن اعتقاد وتصميم يتغير على تقدير الردّ ، ووقوع العود ، فيصير قولهم : «ولا نكذّب» كذبا ؛ كما يقول اللّص عند ألم العقوبة : لا أعود ، ويعتقد ذلك ، ويصمم عليه ، فإذا خلص ، وعاد كان كاذبا. وقد أجاب مكى أيضا بجوابين :
أحدهما : قريب مما تقدم.
والثانى : لغيره ، فقال : أى لكاذبون فى الدنيا فى تكذيبهم الرسل ، وإنكارهم البعث للحال التى كانوا عليها فى الدنيا. وقد أجاز أبو عمرو وغيره وقوع التكذيب فى الآخرة ؛ لأنهم ادعوا أنهم لو ردوا لم يكذّبوا بآيات الله ، فعلم الله ما لا يكون لو كان كيف كان يكون ، وأنهم لو ردوا لم يؤمنوا ولكذّبوا بآيات الله ، فأكذبهم الله فى دعواهم. وأما نصبهما فبإضمار «أن» بعد الواو التى بمعنى «مع» كقولك : ليت لى مالا وأنفق منه ، فالفعل منصوب بإضمار «أن» ، و «أن» مصدرية ينسبك منها ومن الفعل بعدها ـ مصدر ، والواو حرف عطف فتستدعى معطوفا عليه وليس قبلها فى الآية إلا فعل ، فكيف يعطف اسم على فعل؟ فلا جرم أنا نقدر مصدرا متوهما يعطف هذا المصدر المنسبك من «أن» وما بعدها ـ عليه ، والتقدير : يا ليتنا لنا ردّ ، وانتفاء تكذيب بآيات ربّنا ، وكون من المؤمنين ، أى : ليتنا لنا ردّ ، مع هذين الشيئين ، فيكون عدم التكذيب والكون من المؤمنين متمنيين أيضا ، فهذه الثلاثة الأشياء ، أعنى : الردّ ، وعدم التكذيب ، والكون من المؤمنين متمناة بقيد الاجتماع ، لا أن كلّ واحد متمنى وحده ، لأنه كما قدمت لك : هذه الواو شرط إضمار «أن» بعدها أن تصلح «مع» فى مكانها ، فالنصب يعين أحد محتملاتها فى قولك : لا تأكل السّمك وتشرب اللبن وشبهه. والإشكال المتقدم ، وهو إدخال التكذيب على التمنى وارد هنا ، وقد تقدم جواب ذلك ، إلا أن بعضه يتعذر ههنا ، وهو كون «لا نكذّب ونكون» مستأنفين سيقا لمجرد الإخبار ، فبقى إمّا لكون التمنى دخله معنى الوعد ، وإمّا أن قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ليس راجعا إلى تمنيهم ، وإمّا لأن التمنى يدخله التكذيب ، وقد تقدم فساده. وقال ابن الأنبارى : «أكذبهم فى معنى التمنى ، لأن تمنيهم راجع إلى معنى : نحن لا نكذّب إذا رددنا ، فغلب عزوجل تأويل الكلام فأكذبهم ، ولم يستعمل لفظ التمنى». وهذا الذى قاله ابن الأنبارى تقدم معناه بأوضح من هذا. قال الشيخ : «وكثيرا ما يوجد فى كتب النحو : أن هذه الواو المنصوب بعدها هو على جواب التمنى ، كما قال الزمخشرى : وقرئ «ولا نكذّب ونكون» بالنصب ، بإضمار «أن» على جواب التمنى ، ومعناه : إن رددنا لم نكذّب ونكن من المؤمنين». قال : وليس كما ذكره فإنّ نصب الفعل بعد الواو ليس على جهة الجواب ، لأن الواو لا تقع جواب الشرط ، فلا ينعقد مما قبلها ولا مما بعدها شرط وجواب ، وإنما هى واو مع تعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها ، وهى واو العطف ، يتعين مع النصب أحد محاملها الثلاثة ، وهى المعية ويميزها من الفاء تقدير «مع» موضعها ، كما أن فاء الجواب إذا كان بعدها فعل منصوب ميّزها تقدير شرط قبلها ، أو حال مكانها. وشبهة من قال : إنّها جواب ، أنها تنصب فى المواضع التى تنصب فيها ـ