والمعنى فيهما : قيل : عملُه ، وخيرُه وشرُه ، وقيل : شَقاؤُه وسعادَتُه.
قلت : والأصل في هذا كلِّه أن الله تبارك وتعالى لما خَلَقَ آدم عَلِم قبل خَلْقِه ذريتَه أنه يأمرهم بتوحيده وطاعته وينهاهم عن مَعْصيته ، وعلم المطيعَ منهم مِن العاصِين ، والظالِم لِنَفْسِهِ من الناظر لها ، فكتبَ ما عَلِمَه منهم أجمعين ، وقَضَى بسعادة مَن عَلِمه مُطِيعا ، وشقاوَة من علمه عاصيا ، فصار لكل مَن عَلِمَه ما هو صَائِرٌ إليه عند إنشائِه. فذلك قوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) أي ما طار له بَدْءا في عِلْم الله من الشرّ والخير ، وعِلْم الشهادة عند كونهم ، يوافق عِلْمَ الغيبِ ، والحجة تَلْزَمُهم بالذي يَعْمَلُون ، وهو غير مُخالف لما عَلِمه الله منهم قبل كَوْنهم ، والعرب تقول : أي صار له وخرج لَدَيه سهْمُه أَطرتُ المالَ وطَيَّرتَه بَينَ القوم فَطَارَ لكل منهم سَهْمُه ، ومنه قول لبيد يَذكُر ميراثَ أخيه أرْبِد بين ورثته وحيازة كل ذي سهم منهم سَهْمَه. فقال :
تَطِيرُ عَدَائِدُ الأشراك شفْعا |
وَوِتْرا والزعامةُ لِلغُلام |
والأشْراك : الأنْصِباءُ ، وأحدهما شِرْكٌ ، وقوله : شفْعا وَوِتْرا أي قُسِمَ لهم (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، وخَلَصَتْ الرياسةُ والسِّلاحُ للذكور من أولاده.
وقال الله جلّ وعزّ في قصّة ثمود وتشاؤمهم بنبيِّهم المبعوث إليهم ، صالح عليهالسلام : (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) [النمل : ٤٧] ومعنى قولهم ، اطَّيَّرْنا تَشاءَمْنا ، وهي في الأصل تَطَيَّرنا ، فأجابهم فقال الله عزوجل : (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) [يس : ١٩] أي شؤْمكم معكم ، وهو كفرهم وقيل للشُّؤم : طائر وطَيْر وطِيَرة ، لأن العرب كان من شأنها عِيَافَةُ الطَّير ، وزجرُها ، والتَّطَيُّر ببارحها وبِنَعِيق غِرْبانها ، وأخذها ذاتَ اليسار إذا أثاروها فَسَمَّوْا الشؤمَ طَيْرا وطائِرا وطِيَرَةً لِتشاؤُمِهم بها وبأفعالها ، فأعْلَم الله جلّ ثناؤُه على لسان رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن طِيرَتَهم بها باطلة وقال : لا طِيَرَةَ ولا هامة.
وكان النبيّ عليه الصلاة والسلام يتفاءل ولا يَتَطَيَّر ، وأصل التفاؤُلِ الكلمة الحسنة يَسْمَعُها عليل فتُوهِمُه بسلامته من عِلَّته ، وكذلك المضِلُّ يسمع رجلا يقول يا واجِدُ فيجد ضالَّته والطِّيَرة مُضادةٌ للفال ، على ما جاء في هذا الخبر ، وكانت العربُ مذهبها في الفال والطِّيَرة واحدٌ ، فأثبت النبي صلىاللهعليهوسلم الفالَ واستحسنه ، وأَبْطَل الطِّيرَة ونهى عنها.
وقال الليث : يقال طارَ الطائِر يَطير طيرَانا ، قال : والتَّطايُرُ التَّفرُّق والذهاب ، والطِّيرَة اسمٌ من اطَّيرتُ وتَطَيَّرت ، ومثل الطِّيرَة الخِيرَةُ.