وهذا واضحٌ من سيرة المسلمين الأوّلين ... إلى آخر خرافاته ومخاريقه.
لعلّ القارئ يزعم من شدّة الرجل هذه وحدّته في النكير ، والجلبة واللغط في القول ـ التي هي شنشنةٌ يُعرف بها ابن تيميّة شيخ البدع والضلال والمرجع الوحيد في هذه الخزايات والخزعبلات ـ أنَّ لكلامه مقيلاً من الحقيقة ورمزاً من الصدق ، ذاهلا عن أنَّ أعلام المذاهب الإسلاميّة في القرون الخالية ، منذ القرن الثامن من يوم ابن تيميّة ، وبعده يوم محمد بن عبد الوهاب الذي أعاد لتلكم الدوارس جدّتها وحتى العصر الحاضر ، أنكروا على هذه السفسطات والسفاسف وحكموا بكفر من ذهب إلى هذه الآراء المضلّة والمعتقدات الشاذّة عن سيرة المسلمين ، وشنّوا عليه الغارة وبالغوا في الردّ عليه.
والقارئ جدُّ عليم بأنَّ هذه اللهجة القارصة ليست من شأن من أسلم وجهه لله وهو محسن ، وآمن بالنبيِّ الطاهر ، واعتنق بما جاء به من كتاب وسنّة ، ولا تسوِّغها مكارم الأخلاق ومبادئ الإنسانيّة ، ولا يحبِّذها أدب الإسلام المقدّس ؛ أيجوز لمسلم أن يُسوّي بين مشاهدة الأحجار وبين رؤية النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في حال حياته؟ أيسوغ له أن لا يرى لزيارته حيّا وميّتاً قيمة ولا كرامةً ، ولا يعتبر لها فضلاً ما ، وينعق بذلك في الملأ الديني؟ أليس من السيرة المطّردة بين البشر أنَّ كلّ ملّة من الملل تستعظم زيارة كبرائها وزعمائها ، وتراها فضلاً وشرفاً وتعدّها للزائر مفخرةً ومحمدةً ، وتكثر إليها رغبات أفرادها لما يرون فيها من الكرامة ، وقد جرت على هذه سيرة العقلاء من الملل والنحل ، وعليه تصافقت الأجيال في أدوار الدنيا ، وكان يقدِّر الناس ـ سلفاً وخلفاً ـ أعلام الدين بالزيارة والتبرّك بهم ، قال أبو حاتم :
كان أبو مسهر عبد الأعلى الدمشقي الغسّاني المتوفّى (٢١٨) إذا خرج إلى المسجد اصطفَّ الناس يسلّمون عليه ويُقبِّلون يده (١).
__________________
(١) تاريخ الخطيب البغدادي : ١١ / ٧٣ [رقم ٥٧٥٠]. (المؤلف)