المظفر مائة ألف أو يزيدون ، وبينا نحن في السرادق المضروب لاستقبالهما إذا بضجة صعدت للسماء وهتاف بصوت واحد : ليحي أنور وجمال. فهرع القوم جميعا ، وإذا بالبدرين قد بزغا من مطلع الأفق على سيارتهما ، وعرجا على السرادق هنيهة ، ثم استأنفا السير بين أقواس النصر وصفوف الأهلين على اختلاف عناصرهم ومذاهبهم رجالا ونساء وأطفالا وطلبة مدارس على طبقاتها ومشاربها ، والأعلام بأيديهم يحيون أعظم من يحبون. مرت سيارتهما ورفاؤهما تخترق الطريق بين تصفيق الرجال ، وهتاف الأطفال ، وزغاريد النساء ، حتى وصلا إلى المقر العسكري العالي.
لم يقم الأهالي بهذا الاحتفال النادر خوفا أو رياء ، ولكنه الإحساس الوطني الحي ، والقلوب والنفوس التي تعشق أنور وجمالا عشقا عذريا ، ومن لا يعشق النور والجمال؟! ومن لا يحتفل بمحيي حريته ومؤسسي سعادته؟! ولقد رأيت بنفسي امرأة قروية جاءت مندهشة هائجة تخترق الصفوف ، وهي تزغرد وتقول : «أروني أنور ، أروني أنور ، أروني ولدي وحبيبي ، إنني سامحته في أولادي الموجودين تحت السلاح ، فليموتوا فداء له وللوطن» قال الراوي : فبكيت ، وأنا والله شهيد.
ورأيت قروية أخرى فاتتها مشاهدة أنورنا تتأسف ، وتعض يديها ندما لعدم حضورها ملاقاة هذا البطل ورؤيته ، كأنها فاقدة أنجح أبنائها. هذا لعمري هو الإخلاص الحقيقي والشعور الصحيح والحب الخالي من التصنع والمداجاة ؛ لأنه شعور قروي طبيعي ، لا أقول : إنه الوفاء العربي ، ولكنه الإخلاص العثماني الخالص.