يستعد من نفسه بما يليق بمقابلة سيفي الدولة العثمانية ومرجعي مجدها ، فلم تكن عشية أو ضحاها حتى أصبحت المدينة لابسة ثوب بهاء ، مجللة بستار من الزخرف ، يتخلل أزقتها أقواس النصر المغشاة بالحرير الأحمر ، ترفرف على أعاليها الأعلام العثمانية ، فكنت أينما سرت وأنى توجهت تجد أثرا من الزينة ، يقيم لك ألف دليل على مبلغ مكانة الرجلين العظيمين من القلوب ، فقبضا على سويداواتها ، وتصرفا في ظواهرها وبواطنها ، فأصبح الكل رقيقا لهما ، يقدم في محبتهما كل رخيص وغال.
فانتدب محافظ المدينة مدير الصحة جمال بك ؛ ليكون مشرفا على ذلك ، مساعدا للأهالي بترتيب زينتهم العظيمة التي لم يسبق لها منوال ، وانضم إليه في ذلك بشير بك مدير شرطة المدينة ، فكانا يعملان معا في المرور على سائر الأزقة والشوارع فيجدان من همة سكان البلدة الطاهرة ، واعتنائهم بزائر الشفيع الأعظم ، أحسن مساعد لهما ، وأقوى عامل لم يحتاجا معهما إلى كثير تعب وكبير عناء ، بيد أنهما قاما بترصيع الزينة وتدقيقها حتى كان يتصور الرائي أن المدينة إن هي إلا عروس تتهادى في حللها ، وتختال في حليها وبهرجها.
ولم تحن ساعة الهناء من يوم الجمعة المبارك حتى هرع الناس إلى المحطة أفواجا ، وخرج إليها الرجال زمرا ، يهنئ بعضهم بعضا ، متعاضدين متكاتفين ، كأنما طرأ عليهم عامل جديد أوجد بينهم ذلك الاتحاد ، فوفق بين وحدتهم وجمع شتيت كلمتهم ، يتقدم الجمع أغوات الحرم الشريف بعبيدهم مدججين بالسلاح ، تتقدمهم طاستهم تضرب بصوتها الجهوري ، ثم حضرات خطباء الحرم النبوي الدائمون بآلاتهم ، ثم حضرات مؤذني الحرم النبوي لابسين شاراتهم المخصوصة بالأذان ، ينشدون الهمزية والبردة بأنغامهم الشهرية ، فكنت