مصر بعد أن عاد من المنفى لم يكن أقل قدرا من عمله في لبنان ، فقد عمل على دعم الوحدة الوطنية في لبنان ، وكان كثير من شيوخ الأمة في ذلك الوقت على مثل رأيه السياسي كسعد زغلول ، وحسن عاصم ، ومحمود سليمان وغيرهم من رجال حزب الأمة ، ولكنه هو جم من هذه الناحية أكثر مما هو جم أصدقاؤه الذين كانوا على مثل رأيه ، لأن الخديو عباس كان يؤلب عليه أكثر مما يؤلب عليهم ، ثم لأن الناس اعتادوا أن يروا علماء الدين بعيدا عن السياسة.
لقد كان الشيخ محمد عبده ـ بما وهبه الله من غزارة علم وبعد نظر وقوة نفس ورحابة صدر ـ شيئا كبيرا لا يقدره حق قدره إلا أولئك الذين يتخلصون من كبرياء الغرور ، وتسلط النزوات فيحكمون عليه بأنه إن لم يكن أفضل زعيم حكيم فإنه في الصدارة من حكماء الزعماء الذين تحتاج إليهم الأمم إبان نهضتها وعلى طول تاريخها ، بحيث تخسر الإنسانية كثيرا بالتجهم لهم والتهجم عليهم في حياتهم وبعد مماتهم.
وليس يخفى ما كان الشيخ قد لقي من العنت ودناءة الخصومة وعقوق قومه له وجحود فضله عليهم ، فكانت حربهم له من جهات متعددة ، فالخديوي عباس يتخذ السيد توفيق البكري وغيره وسيلة للإفساد بينه وبين رجال الأزهر وتحريض أعضاء مجلس الإدارة على الاستقالة حتى يحل محلهم من يكرهون الشيخ لكي يقفوا في سبيله. وكثير من شيوخ الأزهر يخاصمونه لانه كان لا يكف عن الدعوة إلى تحرير الأفكار من قيود التقليد حتى يكون للمفكرين أن يفهموا الدين على طريق سلف الأمة قبل ظهور الخلافات المذهبية.
ولا ريب في أنه أيقظ الشعور الديني وأشعر المسلمين بأن عليهم أن يهبوا من رقدتهم لإصلاح نفوسهم وإكمال نقصهم غير معتمدين على الفخر