الرّواد تدعو إلى ريادته ، وسمعت قائلا يقول : هلم أظعنكم إلى محلة تطفأ فيها النّيران وتشكّى منها النّساء ، وتنافس فيها المعزى. قال الشّعبي فلم يدر الحجّاج ما يقول : فقال : إنما تحدث أهل الشّام فأفهمهم ، قال : نعم أصلح الله الأمير أخصب النّاس فكان السمن والزبّد واللّبن فلا توقد نار يختبز بها. فأمّا تشكّي النّساء فيحتمل وجها آخر من التّفسير سوى ما تقدم ، وهو أنّ المرأة تظلّ ترتق بهمها وتمخض لبنها ، فتبيت ولها أنين من التّعب ، ويكون التّشكّي من الشّكوى لا من الشّكوة.
وحكى أبو عبد الله قال : قدم رجل من سفر كان فيه ، فقالت له ابنته : كيف كنت في سفرك؟ فقال : تقسّمتني الأداوي والنّجم ، قال : يعني بالنّجم طلب الهداية باللّيل أن لا يضل. والأداوي يريد أن ينظر كم فيها من الماء أقليل أم كثير يشكو جزعه واهتمامه وخوفه من المتالف ، وأنشد للمرار بن سعيد شعرا :
له نظرتان فمرفوعة |
|
وأخرى تأمل ما في السّقاء |
قوله : مرفوعة أي ينظر إلى السماء يسأل ربّه النّجاة ، وأخرى إلى السّقاء هل فيه ما يبلغه إلى الماء.
ولقي أعرابي آخر فسأله عن المطر فقال : أصابتنا أمطار غزيرة واشتدّ لنا ما استرخى من الأرض ، واسترخى لنا ما اشتدّ من السّماء ، أي استرخى لنا جلد السّماء ، واشتدّ الرّمل الذي ندي ، وهذا مثل قول العجّاج شعرا :
عزّز منها وهي ذات إسهال |
|
ضرب سوارى ديمة وتهطال |
وقال أعرابي ونظر إلى السّماء فوجدها مخيلة : هذا صيّب لا يؤمن معه الدّوافع أن تدرأ عليكم بسيولها فتحوّلوا بأخبيتكم ، ولن تنجوا من الموت ، وأنشدني بعضهم للكميت في المخيلة شعرا :
فإيّاكم وداهية ناد |
|
أظلّتكم بعارضها المخيل |