يعتبرون أنفسهم ، ويعتبرهم العالم بأسره قمة فيه ، إكمالا للحجة ، وحتى لا يبقى مجال لأي خيار ؛ لأن خروجه «صلى الله عليه وآله» في بيئة كهذه ، بحجة كهذه ، لا بد أن يجعلهم يذعنون وينقادون للحق ، وإلا فلسوف يراهم كل أحد ، ويرون أنفسهم أيضا معاندين للحق ، ومناصرين للباطل.
نعم ، لقد بهرم هذا القرآن وحيّرهم ، ولم يترك لهم مجالا للخيار فإما الجحود على علم (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ)(١) ، وإما الإيمان والتسليم.
وإذا كنا نعلم : أن من مميزات العربي ، وبحكم حياته وطبيعته :
أنه كان يعيش حياة الحرية بكل ما لهذه الكلمة من معنى ، ولم تلوث فكره وعقله الأفكار والشبهات والآراء المصطنعة ـ كما كان الحال بالنسبة لسائر الأمم ، كالرومان والفرس وغيرهما ، الذين كانوا يحاولون فلسفة أديانهم البعيدة عن الفطرة ، والمنافرة لها ، وإظهارها بمظاهر معقولة ومقبولة ـ.
إذا كنا نعلم ونرى ذلك ، فإن هذا القرآن قد جاء منسجما مع فطرة العربي ، ومتلائما مع طبعه وسجيته ، ومع صفاء نفسه وقريحته ، تماما كما كانت الدعوة نفسها منسجمة مع فطرته وروحه ، ويستجيب لها عقله ، وضميره ووجدانه ، لأنه كان يعيش على الفطرة ، والإسلام دين الفطرة : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)(٢).
ولذلك نراه سرعان ما صار يبذل ماله ، وولده ، ودمه في سبيل هذه
__________________
(١) الآية ١٤ من سورة النمل.
(٢) الآية ٣٠ من سورة الروم.