جبل قريب كان في حوالي الجزيرة ، وكان في غاية الارتفاع ، وكان في خلف الجبل غيضة أشجارها قرنفل ، وكان النحل تأكل في فصل الربيع من أزهارها ويبادرون إلى قلّة الجبل ، فيجتمع لسببها فيها عسل كثير ، ثمّ يأتي المطر فيغسله ويجريه إلى البحر فيشربه الحيتان ، ومن شمعه يحصل العنبر الأشهب ، فإن في وقت الجريان من الجبل يبقى شيئا فشيئا في سفح الجبل ، وبإشراق الشمس على تلك الشموع تتفرّق في تمام تلك الصحراء ، وكنّا نأتي منه في كلّ يوم أمنان إلى أن جمع مائة منّ ، وصنعنا منه في الزورق حوضا ، وصنعنا منه ظروفا وحملنا الماء منها إلى الحوض حتى ملئ منه ، ثمّ جمعنا لطعامنا من الاصول المعروفة بچيني ، وكان كثيرا في الجزيرة ثمّ صنعنا من لحاء الأشجار حبالا وثيقة وشددنا بها رأس الزورق ، وربطناه برأسها الأخرى على شجرة عظيمة.
ثمّ انتظرنا أيام مدّ البحر وزيادة مائه إلى أن بلغ وقته ، ووقع الزورق فوق الماء فحمدنا الله تعالى وجلسنا فيه فلم يتحرّك من مكانه فتأمّلنا فإذا برأس الجبل مشدود على الشجرة ، ونسينا أن نفكّه فأراد أحد الغلامين أن ينزل فنزلت أمّهما قبلهما ، وفكّت الحبل وأخذ الموج الحبل من يدها ، وأذهب بالزورق إلى وسط البحر ، فأخذت المرأة في البكاء والنحيب والصياح والعويل والحركة من طرف إلى طرف ، فلمّا بعدنا منها صعدت شجرة تنظر إلينا وتبكي وتتحسّر ، فلمّا غبنا طرحت نفسها منها ، والغلامان لمّا يئسا منها شرعا في البكاء والأنين والقلق والاضطراب إلى أن وصلنا قبّة البحر ، خافا من نفسها فسكتا ، فلمّا مضى علينا سبعة أيّام وصلنا إلى الساحل ولمّا كنّا عراة صبرنا حتّى أظلم الليل ، فعلوت على مرتفع فرأيت سواد بلاد وضوء نار ، فذهبت إليه مهتديا بعلامة النار ، فلمّا وصلت إليه رأيت بابا عاليا فدققت الباب فكانت الدار لرجل تاجر من رؤساء اليهود ، فخرج فأعطيته قليلا من العنبر الأشهب ، وأخذت منه أثوابا وفرشا ورجعت في الليل إلى ولدي وسترنا عوراتنا ، فلمّا أصبحنا دخلت البلد ، وأخذت هذه الحجرة في هذا الخان ، وجئت بولديّ وصيّرت من الفرش جوالق حملت بها في الليل العنبر والچيني من الزورق إلى الحجرة ، وبعت منها على التدريج ، واشتريت متاع البيت وصرت في زيّ التجّار ، والآن قريب سنة أنا في الهمّ والبكاء والقلق من فراق العاجزة الضعيفة المهجورة وكذلك الأولاد.
فلمّا بلغ كلامه هذا المقام عرضتني رقّة فبكيت معه ساعة ثمّ قلت له : لا رادّ لقضاء الله وتدبيره ، ولا مغيّر لمقاديره وحكمته ، ولكنّي أظنّ أنك لو زرت الإمام الثامن أبا الحسن