فأخبر بذلك الرشيد ، فبكى ، ودعا به ، فاستحله ، ووهب له ألف دينار.
خرج الرشيد في بعض متنزهاته ، فانفرد من الناس على نحو ميل ، فرفع له خباء مضروب ، فأمّه ، فإذا فيه أعرابي ، فسلم عليه الرشيد ، فقال له : من أنت؟ فقال : أنا من أبغض الناس إلى الناس ، فقال الأعرابي : أنت إذا من معدّ ، فمن أي معد؟ قال : من أبغض معد إلى معد ، قال : أنت إذا من مضر ، فمن أي مضر أنت؟ قال : من أبغض مضر إلى مضر ، قال : أنت إذا من كنانة ، فمن أي كنانة؟ قال : من أبغض كنانة إلى كنانة ، قال : أنت إذا من قريش ، فمن أي قريش أنت؟ قال : من أبغض قريش إلى قريش ، قال : أنت إذا من بني هاشم ، فمن أي بني هاشم؟ قال : من أبغض بني هاشم إلى بني هاشم ، قال : أنت إذا من ولد العباس ، فمن أي ولد العباس أنت؟ قال : من أبغض بني العباس إلى بني العباس ، فوثب الأعرابي قائما وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، وتوافت الجيوش ، فقال الرشيد : احملوه قاتله الله ما أذهنه.
قال سفيان بن عيينة (١) :
دخلت على هارون أمير المؤمنين فقال : أي شيء خبرك يا سفيان؟ فقلت :
بعين الله ما تخفي البيوت |
|
فقد طال التحمّل والسكوت |
فقال : يا فلان ، مائة ألف لابن عيينة ، تغنيه ، وتغني عقبه ، ولا ينقص بيت مال المسلمين من ذلك (٢).
قال شبيب :
كنا في طريق مكة ، فجاء أعرابي في يوم صائف شديد الحر ، ومعه جارية له سوداء ، وصحيفة ، فقال : أفيكم كاتب؟ قلنا : نعم ، وحضر غداؤنا ، فقلنا له : لو أصبت من طعامنا ، فقال : إني صائم ، فقلنا له : أفي هذا الحر الشديد ، وجفاء البادية تصوم؟! فقال : إن الدنيا كانت ولم أكن فيها ، وتكون ولا أكون فيها ، وإنما لي منها أيام قلائل ، وما أحب أن أغيّر أيامي ، ثم نبذ إلينا الصحيفة ، فقال : اكتب ، ولا تزيدن على ما أقول حرفا :
__________________
(١) الخبر رواه ابن كثير في البداية والنهاية ١٠ / ٢٣٧ من طريق الحسن بن أبي الفهم عن محمد بن عباد عن سفيان بن عيينة ، وذكره.
(٢) في البداية والنهاية : ولا تضر الرشيد شيئا «مكان» ولا ينقص بيت مال المسلمين من ذلك.