أهديت إلى الرشيد جارية في غاية الجمال والكمال ، فخلا بها أياما (١) ، وأخرج كل قينة من داره ، واصطبح يوما ، فكان من حضر من جواريه للغناء والخدمة في الشراب وغيره زهاء ألفي جارية في أحسن زي ، من كل نوع من أنواع الثياب والجوهر ، واتصل الخبر بأم جعفر (٢) فغلظ عليها ذلك ، فأرسلت إلى عليّة (٣) تشكو إليها ، فأرسلت إليها عليّة : لا يهولنك هذا ، فو الله لأردنه [إليك](٤) ، وأنا أعمل شعرا ، وأصوغ فيه لحنا ، وأطرحه على جواريّ ، فلا تدعي عندك جارية إلا بعثت بها إلي ، وألبسيهن فاخر الثياب والحلي ليأخذن الصوت مع جواري ، ففعلت أم جعفر ما أمرتها. فلما جاء وقت العصر لم يشعر الرشيد إلا وعليّة قد خرجت عليه من حجرتها ، وأم جعفر قد خرجت من حجرتها معهما (٥) زهاء ألفي جارية من جواريهما (٦) وسائر جواري القصر ، وكلهن في لحن واحد هزج صنعته عليّة :
منفصل عني وما |
|
قلبي عنه منفصل |
يا قاطعي اليوم لمن |
|
نويت بعدي أن تصل |
فطرب الرشيد ، وقام على رجليه حتى استقبل أم جعفر وعلية ، وهو على غاية السرور ، وقال : لم أر كاليوم قط ، ثم قال : يا مسرور ، لا يبقينّ في بيت المال درهم (٧) إلا نثرته ، فكان مبلغ ما نثر يومئذ ست آلاف ألف درهم ، وما سمع بمثل ذلك اليوم قط.
دخلت أعرابية على هارون الرشيد ، فأخرج إليها ماردة (٨) وكانت ذات جمال وشكل ، وكان الرشيد يحبها فأنشدته الأعرابية أشعارا تمدحه ببعضها ، وأنشدها الرشيد لنفسه في ماردة :
وتنال منك بحدّ مقلتها |
|
ما لا ينال بحده النصل |
__________________
(١) الأغاني : فخلا معها يوما.
(٢) يعني زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور ، زوجته ، وأم ابنه الأمين.
(٣) يعني علية بنت المهدي ، أخت هارون الرشيد ، أمها أم ولد ، مغنية ، وكانت علية من أحسن الناس وأظرفهم ، تقول الشعر الجيد وتصوغ فيه الألحان الحسنة. انظر أخبارها في الأغاني ١٠ / ١٦٢.
(٤) زيادة لازمة للإيضاح عن الأغاني.
(٥) في الأغاني : معها.
(٦) الأغاني : جواريها.
(٧) في الأغاني : لا تبقين في بيت المال درهما.
(٨) ماردة جارية ، قيل إنها أم المعتصم ، أهدته إياها أم جعفر انظر الأغاني ١٨ / ٦٧ و ٢٢ / ٤٦.