يلحن فى حرف من القرآن الكريم إذ كان يقرأ قوله عزوجل : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ)إلى قوله تعالى : (الصَّاحِبِ) بضم أحبّ والوجه أن تقرأ بالنصب خبرا لكان لا بالرفع (١). وإذا كان الحجاج وهو فى الذروة من الخطابة وللبيان والفصاحة والبلاغة يلحن فى حرف من القرآن ، فمن وراءه من العرب نازلة المدن الذين لا يرقون إلى منزلته البيانية كان لحنهم أكثر. وازداد اللحن فشوّا وانتشارا على ألسنة أبنائهم الذين لم ينشأوا فى البادية مثلهم ولا تغذّوا من ينابيعها الفصيحة ، إنما نشأوا فى الحاضرة واختلطوا بالأعاجم اختلاطا أدخل الضيم والوهن على ألسنتهم وفصاحتهم على نحو ما هو معروف عن الوليد بن عبد الملك وكثرة ما كان يجرى على لسانه من لحن (٢). وكان كثيرون من أبناء العرب ولدوا لأمهات أجنبيات أو أعجميات ، فكانوا يتأثرون بهن فى نطقهن لبعض الحروف وفى تعبيرهن ببعض الأساليب الأعجمية (٣). وكل ذلك جعل الحاجة تمسّ فى وضوح إلى وضع رسوم يعرف بها الصواب من الخطأ فى الكلام خشية دخول اللحن وشيوعه فى تلاوة آيات الذكر الحكيم.
وانضمت إلى ذلك بواعث أخرى ، بعضها قومى عربى ، يرجع إلى أن العرب يعتزّون بلغتهم اعتزازا شديدا ، وهو اعتزاز جعلهم يخشون عليها من الفساد حين امتزجوا بالأعاجم ، مما جعلهم يحرصون على رسم أوضاعها خوفا عليها من الفناء والذوبان فى اللغات الأعجمية. وبجانب ذلك كانت هناك بواعث اجتماعية ترجع إلى أن الشعوب المستعربة أحست الحاجة الشديدة لمن يرسم لها أوضاع العربية فى إعرابها وتصريفها حتى تتمثّلها تمثلا مستقيما ، وتتقن النطق بأساليبها نطقا سليما. وكل ذلك معناه أن بواعث متشابكة دفعت دفعا إلى التفكير فى وضع النحو ، ولا بد أن نضيف إلى ذلك رقى العقل العربى ونمو طاقته الذهنية نموا أعدّه للنهوض برصد الظواهر اللغوية وتسجيل الرسوم النحوية تسجيلا تطّرد فيه القواعد وتنتظم الأقيسة انتظاما يهيئ لنشوء علم النحو ووضع قوانينه الجامعة المشتقة من
__________________
(١) طبقات النحويين واللغويين للزبيدى (طبعة الخانجى) ص ٢٢. وانظر البيان والتبيين (طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر) ٢ / ٢١٨.
(٢) البيان والتبيين ٢ / ٢٠٤ وانظر عيون الأخبار لابن قتيبة ٢ / ١٥٨ ، ١٦٧.
(٣) البيان والتبيين ١ / ٧٢ ، ٢ / ٢١٠.