مذهبها النحوى على عمد الانتخاب من آراء المدرستين الكوفية والبصرية. وإنما أوقعه فى ذلك أنه رأى الفراء يتأثر المدرسة البصرية فى بعض آرائه ومنازعه (١) ، كأن يعمد أحيانا فى الإعراب إلى تقدير العوامل المحذوفة ، أو يرفض بعض اللغات الشاذة ، أو يأخذ بالقياس وضبط القواعد ، أو يخطئ شاعرا فى تعبير. وكل ما رواه من ذلك ليس فيه شىء انتخبه الفراء من آراء المدرسة البصرية وأقوال أئمتها النحويين ، وإنما هو فيه يدلى بآرائه الخاصة. وأبعد فى الغلو فقال إنه تأثر البصريين فى تخطئة بعض القراءات متورطا فى ذلك مع بعض الباحثين ، ورأينا فى ترجمة الأخفش كيف كان يوجّه القراءات التى لا تجرى على مقاييس مدرسته ، وليس فى كتاب سيبويه تخطئة واحدة لقراءة من القراءات مع كثرة ما استشهد به منها وقد صرّح بقبولها جميعا مهما كانت شاذة على مقاييسه ، إذ قال إن «القراءة لا تخالف ، لأنها سنّة» (٢).
ويظهر أن الكسائى هو الذى بدأ تخطئة القراء إذ نرى الفرّاء يتوقف فى كتابه معانى القرآن مرارا ليقول إن الكسائى كان لا يجيز القراءة بهذا الحرف أو ذاك ، يقول تعليقا على قراءة يكون بالرفع والنصب فى قوله تعالى فى سورة النحل : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقوله جل وعز فى سورة يس : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) : بالنصب «لأنها مردودة (أى معطوفة) على فعل قد نصب بأن ، وأكثر القراء على رفعهما ، والرفع صواب ، وذلك أن تجعل الكلام مكتفيا عند قوله (فى سورة النحل) إذا أردنا أن نقول له كن ، فقد تمّ الكلام ، ثم قال : فيكون ما أراد الله. وإنه لأحبّ الوجهين إلىّ ، وإن كان الكسائى لا يجيز الرفع فيهما ويذهب إلى النسق (أى العطف على الفعل المنصوب بأن)» (٣). وكأن الفراء هنا يخطّىء أستاذه ويصحح القراءة ، وسنرى فى ترجمته أنه أنكر عدّة قراءات. ومن هنا كنا نؤمن بأنه هو وأستاذه اللذان فتحا للبصريين التالين لهما تخطئة بعض القراءات من أمثال
__________________
(١) كتاب أبى زكريا الفراء ومذهبه فى النحو واللغة ص ٣٧٧ وما بعدها.
(٢) ابن الجزرى ١ / ٦٠٣.
(٣) معانى القرآن للفراء (طبعة دار الكتب المصرية) ١ / ٧٥.