مقدمتهم إمامهم الكسائى كانوا لا يكتفون بما يأخذون عن فصحاء الأعراب ، إذ كانوا يأخذون عمّن سكن من العرب فى حواضر العراق ، وكثير منهم كان البصريون لا يأخذون عنهم ولا عن قبائلهم المقيمة فى مواطنها الأصلية مثل تغلب وبكر لمخالطتهما الفرس ومثل عبد القيس النازلة فى البحرين لمخالطتها الفرس والهند (١).
وقد حمل البصريون على الكوفيين حملات شعواء حين وجدوهم يتسعون فى الرواية على هذه الشاكلة ، وخصّوا الكسائى بكثير من هذه الحملات ، قائلين «إنه كان يسمع الشاذ الذى لا يجوز ، من الخطأ واللحن وشعر غير أهل الفصاحة والضرورات ، فيجعل ذلك أصلا ، ويقيس عليه حتى أفسد النحو» (٢). وقالوا إنه لقى عشيرة من بنى عبد القيس تسمى الحطمة كانت نازلة ببغداد ، فأخذ عنها كثيرا من الخطأ واللحن (٣) ، مما اتضح أثره فى مناظرته المشهورة لسيبويه ، فإن سيبويه تمسك فيها بما سمعه عن العرب الفصحاء فى مثل : «قد كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزّنبور فإذا هو هى» حتى إذا قال الكسائى إنه يجوز «فإذا هو إياها» أنكر ذلك إنكارا شديدا. وسرعان ما استعان عليه الكسائى بأعراب عشيرة الحطمة ، فأيّدوه ، وتأييدهم لا قيمة له فى رأى سيبويه ومدرسته ، لأنهم ليسوا من الفصحاء المتبدين فى قيعان نجد وتهامة والحجاز ، ممن يؤخذ عن لسانهم النحو واللغة.
وكان ذلك بدءا لخلاف واسع بين المدرستين ، فالبصرة تتشدد فى فصاحة العربى الذى تأخذ عنه اللغة والشعر ، والكوفة تتساهل ، فتأخذ عن الأعراب الذين قطنوا حواضر العراق ، مما جعل بعض البصريين يفخر على الكوفيين بقوله : «نحن نأخذ اللغة عن حرشة (أكلة) الضّباب وأكلة اليرابيع (أى البدو الخلّص) وأنتم تأخذونها عن أكله الشواريز (٤) وباعة الكواميخ (٥) (أى عرب المدن)».
ولم تقف المسألة عند حد الاتساع فى الرواية ، بل امتدت إلى الاتساع
__________________
(١) المزهر ١ / ٢١٢.
(٢) معجم الأدباء ١٣ / ١٨٣.
(٣) معجم الأدباء ١٣ / ١٨٢ وإنباه الرواة ٢ / ٢٧٤.
(٤) الشواريز : جمع شيراز ، وهو اللبن الرائب المصفى.
(٥) الكواميخ : جمع كامخ وهو مخلل يشهىّ الطعام.